المشاهد نت

الفارق الهش بين الاقتصاد والسياسة

مصطفى ناجي

مصطفى ناجي

كاتب صحافي يمني

وضعت الهدنة السارية غير الرسمية اليمنيين والمعنيين بالشأن اليمني أمام قضيتين رئيسيتين هما الوضع الإنساني والاقتصاد، وهذا أمر محمود أن تنصرف العناية إلى هذين الأمرين على اعتبار أن الاهتمامات فيما سبق كانت تصوّب نحو الحرب ومجرياتها؛ إلا أني لا أرى ذلك طالما والحرب في اليمن هي من الحروب القليلة التي لا تحظى بتغطية إعلامية مناسبة ولا تقارير ميدانية دقيقة كريمة التفاصيل ولا توثيق مرافق، فلا إحصاءات تقريبية ولن أقول دقيقة عن ضحاياها المباشرين أو غير المباشرين ونحن في القرن الحادي والعشرين.

أود تناول الجانب الاقتصادي في هذا الاهتمام وما هي منطلقاته وكيف ستبدو مخرجاته، توجد ثلاثة أطراف فاعلة تتعامل مع الشأن اليمني، وسبق وأن أشرت في كتابة سابقة إلى ثلاث منصات وهذا المنشور امتداد لتلك الفكرة لكنه سيتعامل مع الجانب الاقتصادي على وجه التحديد.

الطرف الأول هو الحوثي الذي يبدو كتلة واحدة مصمتة وليس لديه أي تصور للحياة العامة في اليمن إلا من خلال معادلة الحرب، ويحب أن تقود كل المدخلات؛ سياسية وإدارية وأيديولوجية طائفية واقتصادية، إلى استمرار الحرب لتعزيز التصور اللاهوتي للمجتمع الحوثي، مجتمع سيكون في نهاية المحصلة كومة خراب كبيرة منصوبة عليها شاشة عملاقة يتحدث فيها عبد الملك الحوثي بصوت منغوم عن الأمة العظيمة والشعب العظيم؛ أي أن الشعب لا يرى عبد الملك هذا وعبد الملك لا يرى الشعب، فأبسط عمل للسلطة هو دفع الرواتب وتسيير بندها في ميزانية عامة معلنة، وهذا ما لم يتم في سلطنة الحوثي هذه.

النظرة الأيديولوجية للموارد الاقتصادية في دويلة الحوثي لا تخرج عن السعي الحثيث لفرض الخمس أو استبدال طبقة الأثرياء بأثرياء جدد حوثيي الولاء

والنظرة الأيديولوجية للموارد الاقتصادية في دويلة الحوثي لا تخرج عن السعي الحثيث لفرض الخمس أو استبدال طبقة الأثرياء بأثرياء جدد حوثيي الولاء، مثلًا، يتعرض القطاع المصرفي لمضايقات تكاد تقضي على البنكنة في اليمن بينما تعمل الجماعة على تأسيس بنك جديد بحس طائفي، والحال كذلك مع قطاع النفط، وعلى خطاها تسير أطراف أخرى كما هو الحال مع الانتقالي في عدن.

الكتلة الثانية هي كتلة الشرعية وهي متنوعة لكن أطرافها السياسية لا ترى الاقتصاد ولا تتحدث عنه ولا تشغل بالها به، وحدها الحكومة بصفتها التقنية لا السياسية تقدم خطاباً تقنيًا بملامح مشوشة في كثير من الأحيان لأن قرار الاقتصاد سياسي وقرار السياسة اقتصادي؛ مع هذا لم تؤسس الحكومة أوليات العمل المتمثلة بجهاز إحصاء يتيح لصانع القرار الرؤية غير المشوشة، فضلًا عن أن المستوى المحلي من الحكومة نسي مهمته وانجر وراء اقتطاع كعكة الموارد العامة ويميل إلى الانفراد بما لديه من موارد.

كتلة الشرعية وهي متنوعة لكن أطرافها السياسية لا ترى الاقتصاد ولا تتحدث عنه ولا تشغل بالها به، وحدها الحكومة بصفتها التقنية لا السياسية تقدم خطاباً تقنيًا بملامح مشوشة في كثير من الأحيان لأن قرار الاقتصاد سياسي وقرار السياسة اقتصادي

والعيب القاتل لهذه الأطراف السياسية في إطار الشرعية هي أنها ترى أن الخلل في الوقت الحالي يكمن في اختلال صيغة التمثيل والمحاصصة وهذا أدى إلى الفشل في تعظيم الموارد وسوء استخدامها، أي أنها لا تملك أدنى فكرة عن الرقابة وأدوات العمل أو عن تأسيس شروط النهوض بالموارد ولا تنتبه لمهددات هذه الموارد سيما وقد توقف تصدير النفط ولم يعد ممكنًا غير استنهاض الوعاء الضريبي والجمركي الذي ينزلق نشاطه تدريجًا نحو الحوثي، تتكلم الأطراف السياسية في إطار الشرعية عن الاقتصاد باستعلاء أخلاقي ترى نفسها طاهرة عن الفساد وأن الآخرين هم المفسدون، يمكن تلمس هذا السلوك في خطاب الانتقالي على سبيل المثال لا الحصر.

القطاع الخاص الذي تدفعه حساباته الخاصة ومخاوفه من ترنح نشاطه وفقدان مكتسباته – وهذا مشروع جدًا- إلى تصور أنه من الممكن تحرير الاقتصاد من السياسة، فيتوسل الأطراف المتحاربة إجراءات سطحية وليست نوعية لتسهيل نقل الأموال والبضائع ولا يدرك أن الحرب تعني شيئين أساسيين، أولًا الحرب إفقار للناس وتعطيل للقاعدة الإنتاجية


أما تقنيو الحكومة فهم معزولون عن الواقع السياسي لدرجة أنهم لم يعدوا يفكروا باليمن كاملًا كجغرافيا لموارد محتملة ويرون أنه يمكن حل الاقتصاد بعيدًا عن السياسة، وأن الاستسلام للأمر الواقع هو مفتاح المشكلة الاقتصادية.

ويقع في هذا الشرك القطاع الخاص الذي تدفعه حساباته الخاصة ومخاوفه من ترنح نشاطه وفقدان مكتسباته – وهذا مشروع جدًا- إلى تصور أنه من الممكن تحرير الاقتصاد من السياسة، فيتوسل الأطراف المتحاربة إجراءات سطحية وليست نوعية لتسهيل نقل الأموال والبضائع ولا يدرك أن الحرب تعني شيئين أساسيين، أولًا الحرب إفقار للناس وتعطيل للقاعدة الإنتاجية وتغيير حاد في ظروف النشاط التجاري والصناعي لغياب الأمن والاستقرار وسلاسة الإجراءات وتعطيل المرجعية القانونية الناظمة؛ بالتالي لا تجارة ولا ثروة ولاشيئ وإلا فما معنى الحرب، الثاني أن المتحاربين في اليمن ليسوا مرتزقة هبطوا على اليمن خارج البيئة المحلية وصراعها السياسي وهم مجردون في حربهم من الدوافع الإيديولوجية بشكلها المناطقي الجهوي أو المذهبي لصياغة شروط اقتصادية جديدة.

يتصور القطاع الخاص أن المتحاربين في اليمن يتقاتلون لمجرد سعيهم إلى أخذ زمام السلطة والترفع عن الاقتصاد والاحتفاظ بولاء سياسي وفرض الدعاء لهم في خطب الجمعة بالحفظ والمباركة؛ بل يتجاهل أنهم يريدون إقامة منظومة متكاملة تعيد تشكيل الوجه الهوياتي للمجتمع وإعادة توزيع مراكز القوة والثروة؛ لذا ينشؤون بنوكًا بديلة، شركات خدمات نفطية بديلة وشركات اتصالات بديلة ومنظمات بديلة وكتلًا اجتماعية – سياسية بديلة ومصانع ومتاجر بديلة، أي أن غايتهم هي الثروة عينها ويستخدمون القوة لأخذها من أعين كل تاجر ومستثمر.

تريد القوى الإقليمية استصناع لاعبين محليين لا يملكون الحد الأدنى من الاستقلال المالي والاقتصادي وإلا ما عاشت الحكومة حياة غرفة الإنعاش كل ما مضى من أعوام الحرب.

الطرف الثالث هي القوى الخارجية وهذه على نوعين، الصنف الدولي وتمثلهم القوى الإقليمية التي تستخدم الاقتصاد كأداة عقاب وإخضاع للأطراف المحلية التابعة لها، تريد القوى الإقليمية استصناع لاعبين محليين لا يملكون الحد الأدنى من الاستقلال المالي والاقتصادي وإلا ما عاشت الحكومة حياة غرفة الإنعاش كل ما مضى من أعوام الحرب.
تغطي هذه القوى عن سياستها الاقتصادية هذه بأمرين: أولًا توزيع مساعدات إنسانية بشكل مباشر لمنع مجاعة مفتوحة، وغير مباشر لإسكات أبواق المنظمات الدولية اللجوجة، وثانيا، تقديم مساعدات مالية إسعافية للحكومة مثقلة بشروط سياسية لتعديل علاقة القوة بين أطراف الشرعية واستحياء القوى المستصنعة، بالإضافة إلى شروط إصلاح تقدَّم على ما يراد إصلاحه. بينما الظرف الذي تعيشه الحكومة يقتضي أن تكون الإصلاحات مرافقة للدعم لا سابقه له ومعقودة به.

الصنف الثاني هو المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، وهذه من الذكاء لدرجة أها تطرح أكثر الأفكار سذاجة خصوصًا فصل السياسي عن الاقتصادي في حل مشكلة اليمن، بفضل أفكارها الذكية غاب مبدأ استعادة الدولة لتكون الضامن المؤسسي لإصلاح أي اقتصاد، بل تخدَّر موظفو الدولة وخبراء الاقتصاد وأيضًا القطاع الخاص من تناولهم مثل هذه الأفكار.
إن الدعوة إلى تحييد الاقتصاد عن الحرب رغم رومانسية الفكرة وعدم واقعيتها هي دعوة هامة جدًا إذ يجب عدم الاعتداء على الملكية الخاصة وعدم استهداف المنشآت التجارية والصناعية وعدم فرض قيود على حركة السلع والأموال داخل اليمن، وأهم من ذلك عدم إقحام العملة الوطنية كأداة حرب. لكن أهم من ذلك هو التفكير بالمستقبل الذي تسعى لخلقه الأطراف المتحاربة والذي يبدو نكوصًا كليًا على ليبرالية السوق وتعمد هدم الحرمة الشرعية والعرفية والدستورية للملكية الخاصة؛ لذا لن يجد القطاع الخاص مناصًا من انخراطه في التحضير للمستقبل إذا أراد أن يبقى في البلاد وأن يقوم بواجبه الوطني لا أن يتعامل بذهنية الشركات العابرة للأوطان القادرة على سحب أموالها متى ما ساءت الظروف. فحقيقة الحرب الجارية في اليمن ليست حربًا من أجل الاستحواذ على معمل صناعة القرار وفق القواعد السارية ولا من أجل توسيع رقعه السيطرة إنما حرب من أجل الثروة وعلى مالكيها.

الأكثر قراءة