المشاهد نت

لحظة يمنية بائسة

نبيل البكيري

نبيل البكيري

كاتب صحافي يمني

يتضخم الحوثي كل يوم، بفعل العدوان والإبادة الصهيونية بحق سكان غزة المحاصرة، والذين تحولت مأساتهم إلى ما يشبه مرايا مقعرة تمكن الحوثي من عرض نفسه من خلالها ليراه العالم بعد ذلك بهذا الشكل الذي ظهر عليه، وكأنه بعبع كبير لا يمكن تجاوزه وإيقافه عند حده، وبهذا الصورة المكبرة والمجسمة للجماعة الحوثية، غدا حتى الخليج ينظر للحوثي من خلالها، وكأن حرب غزة أتت بمثابة حبل نجاة وإنقاذ لهذه الجماعة التي قدمت أسوأ صورة ممكنة للحكم، بل أعادت اليمنيين إلى صورة الحكم الثيوقراطي الإمامي القديم، وبكل شكله وألوانه.
لم يستفد أحد من حرب غزة مثلما استفادت مليشيات جماعة الحوثي، التي تمكنت من تقديم نفسها بصورة جذابة ومغايرة تمامًا عن صورتها الحقيقية كجماعة مليشياوية موغلة بالتخلف والانحطاط والرجعية، وهذه الاستفادة التي تحصد نتائجها جماعة الحوثي اليوم، هي لا شك على حساب مصالح اليمن واليمنيين ودولتهم وكرامتهم وحريتهم قبل كل شيء آخر.
بؤس هذه اللحظة اليمنية يتجلى اليوم بكل هذا الواقع المثخن بالأزمات والفراغ الكبير الذي تتمدد فيه ومن خلاله المليشيات الحوثية، وتتضاءل مقابلها فكرة الدولة اليمنية والشرعية التي تمثلها، بفعل ارتهان هذه الشرعية لقوى المتدخلين الذين رهنوا مصالحهم ووجودهم باليمن من خلال استمرار إضعاف الشرعية اليمنية وتفكيكها وتحويلها إلى أضعف الأطراف المتصارعة ليسهل بذلك تجاوزها في أية لحظة يمكن للقوى المتدخلة أن تتخلص منها.

بؤس هذه اللحظة اليمنية يتجلى اليوم بكل هذا الواقع المثخن بالأزمات والفراغ الكبير الذي تتمدد فيه ومن خلاله المليشيات الحوثية، وتتضاءل مقابلها فكرة الدولة اليمنية والشرعية التي تمثلها، بفعل ارتهان هذه الشرعية لقوى المتدخلين


صحيح أن هذا المنطق السياسي العدمي بالأخير لن يضر اليمنيين وحدهم، وستتضرر منه المنطقة كلها، إن لم تكن قد تضررت أصلًا، بفعل هذا الانكشاف الكبير لمنظومة أمن المنطقة كلها، والتي غدت منكشفة أمنيًا، وتحت رحمة المشروع الإيراني ودويلاته المليشياوية الممتدة شمالًا وجنوبًا في ما يشبه الطوق الذي غدا يحاصر الخليج وممالكه كلها، وهي الهدف الرئيسي لكل هذا الإحماء الطائفي، والتي أصبحت في وضع هو الأسوأ في تاريخها على الإطلاق، منذ تأسيسها وحتى اللحظة.
لكن ما يهمنا نحن كيمنيين هنا، هو كيف نخرج من هذا المأزق وحالة البؤس هذه التي تضرب المشهد اليمني، وتهيمن عليه، بفعل الفشل الكبير والعجز الدائم الذي يهيمن على مؤسسات وشخوص الشرعية، عدا عن حالة الإحباط التي تضرب كل بارقة أمل هنا أو هناك بإمكانية الخروج من مأزق هذه اللحظة اليمنية البائسة.

سقوط مشروع الحوثي واندثاره، هذه مسألة لا جدال فيها، الخلاف هو حول حجم التضحيات وضريبة بقاء هذا المشروع فترة أطول في انتظار سقوطه، لأنه لن يسقط إلا بوجود البديل الجاهز، وهذا للأسف تم ضربه وتأخيره وتفكيكه، وهو مشروع الشرعية الدستورية والقانونية والشعبية التي تم الانقلاب عليها


قطعًا، ليس ما نقوله هنا، نوعًا من الإحباط والهروب من المسؤولية، ما نقوله هنا هو تشخيص لواقع يجب ألا نهرب من مواجهة حقيقته ومكاشفة وضعه، حتى نتمكن من الخروج منه، ولا يمكن ذلك بدون مكاشفة حقيقية، تستند إلى تشخيص دقيق لمكامن الخلل والبؤس، وكيف يمكن الخروج منها، لأن الاستمرار بهذا المسار لن يؤدي سوى إلى تسيد الفوضى والعبث، بل تقوية المشروع الحوثي الذي يتقوى بفشل خصومه، وليس بقوته الكامنة فيه، فهو مشروع كامنة فيه بذور فشله ونهايته من داخله، لأنه يقوم على فكرة عنصرية لا يسعف وجودها زمان ولا مكان.
سقوط مشروع الحوثي واندثاره، هذه مسألة لا جدال فيها، الخلاف هو حول حجم التضحيات وضريبة بقاء هذا المشروع فترة أطول في انتظار سقوطه، لأنه لن يسقط إلا بوجود البديل الجاهز، وهذا للأسف تم ضربه وتأخيره وتفكيكه، وهو مشروع الشرعية الدستورية والقانونية والشعبية التي تم الانقلاب عليها، وتم تفريغها من قوتها وشرعيتها بعد ذلك، بفعل سياسات المتدخلين، وضعف رجال الشرعية في هذه المرحلة.

التحرر من الآسار المكبلة للإرادة الوطنية، هو المخرج، وهذا لا يتأتى إلا من خلال نخبة وطنية نظيفة ونزيهة، وخالية من حظوظ النفس وأدرانها، نخبة تحترم ذاتها، وتحترم تاريخها، وتحترم تضحيات اليمنيين، وتحترم تاريخ نضالات الحركة الوطنية


والمدخل اليوم لإيقاف هذا الانهيار العام، وإنهاء حالة البؤس اليمنية هذه، يكمن في استعادة اليمنيين إرادتهم، وتحررهم أولًا وقبل كل شيء، من وصاية خارجية، لأن انطلاق اليمنيين دائمًا يكمن في اعتمادهم على أنفسهم وذواتهم، وتحررهم من أي قيود تقيد إرادتهم، وتجاوز هذه العُقدة اليزنية كما تُسمى في التاريخ اليمني، أصبح هو المخرج الاضطراري الوحيد لمغادرة مربع البؤس الكبير الذي يعتري اليمن واليمنيين أرضًا وإنسانًا.

التحرر من الآسار المكبلة للإرادة الوطنية، هو المخرج، وهذا لا يتأتى إلا من خلال نخبة وطنية نظيفة ونزيهة، وخالية من حظوظ النفس وأدرانها، نخبة تحترم ذاتها، وتحترم تاريخها، وتحترم تضحيات اليمنيين، وتحترم تاريخ نضالات الحركة الوطنية، وأهمية أن يكون ذلك التاريخ هو الملهم والبوصلة والمسار الذي ينبغي العودة إليه، لأن ظروف التاريخ اليمني وتكرار حدوثه قائمة كما هي، فإمامة عادت، وتشظٍّ يلوح في الأفق، واستلاب كل هذا يتطلب العودة إلى تاريخ نضال الحركة الوطنية، وتلمس الخروج من خلال تجربة ذلك النضال الوطني الملهم، والذي لايزال مادة خامة لاي استئناف نضالي وطني حتى هذه اللحظة.
تمرض الشعوب كما تمرض الأجساد، وتتعافى كما تتعافى الأجساد تمامًا، لكن الشعوب لا تموت كما يموت الأفراد والأجساد، وهنا فالشعوب خالدة تجدد ذاتها، وتستأنف انطلاقاتها كلما كبت أو سقطت أو تعثرت في مسيرتها التاريخية، ونحن في لحظة كبوة كبيرة يمنيًا، كبوة تسببت بها حالة القطيعة مع تراث الحركة الوطنية اليمنية، والتنكر لنضالاتها وتضحياتها، وكل ما يحدث اليوم هو إعادة تكرار مسار التاريخ المحكوم علينا بتكراره عقابًا لنسياننا وتنكرنا لذلك التاريخ الوطني الناصع بكل ما فيه من هزائم وانكسارات، لكنه تاريخ صنع لنا لحظات وطنية بهيجة وعظيمة، فرطنا بها، وها نحن ندفع الثمن الكبير لذلك النكران الذي لايزال قائمًا حتى اللحظة لتاريخنا ونضالات الثوار والأحرار والآباء المؤسسين.
ختامًا، إن بؤس الحال لا يعني قطعًا بؤس المستقبل، وإنما يعني أن المستقبل الذي ينتظرنا لا يجب أن نذهب إليه بأدوات اللحظة وسياساتها، وأن علينا أن نغير دفة السير والقيادة، ونعيد الاعتبار لذواتنا بتحريرها من الهيمنة الخارجية، وأن البداية تكمن في استعادة القرار الوطني، وكل حديث من غير بوابة استعادة القرار الوطني ليس سوى عبث لا طائل من ورائه سوى استمرار حالة البؤس الراهنة التي يتم إنتاجها واستدامتها، بتواطؤ الجميع، لكن التواطؤ الأكثر قسوة وخيانية هو تؤاطؤ النخبة التي تقدم مصالحها الخاصة على الصالح الوطني العام.

الأكثر قراءة