المشاهد نت

فيوض وتشظيات “مشاعر متأينة” لـ عقيل محمد سعيد

محمد عبدالوكيل جازم

محمد عبدالوكيل جازم

كاتب صحافي وروائي يمني

لا يمكن أن أحيط بالكثير من جماليات ديوان “مشاعر متأينة” للشاعر عقيل محمد سعيد، الذي صدر أخيرًا عن مركز إرم للتنمية الثقافية والدراسات، وذلك لأن مفردات الديوان كثيرة ومتأينة ومتشعبة، وجمالياته ليس من السهولة الإلمام بتلابيبها، ولكن بالإمكان أن ألمّ ببعض الإشارات العامة في الديوان الذي يقع في مائة صفحة، ونصوص تزيد عن ستين نصًا.
ولكن ما أود الإشارة إليه بداية هو أنه من يتطرق لأحد أعمال عقيل لن يستطيع أن يتجاوز شخصيته الاستثنائية، فهو شخص وقور وصامت، لا يتحدث إلا وقت الحاجة، وإذا قال شيئًا، فإن الحاضرين لا بد أن ينتظروا؛ لأن ما سيقوله بهدوء الشاعر هو القول الفصل، يميل إلى العزلة قليلًا، ولكنه بالمقابل -كما عُرف في مجال عمله- يتحول إلى كتلة من النشاط، بخاصة إذا أوكلت إليه مهمة وطنية، فقد عرف في قيادة وزارة الخدمة المدينة في طليعة الكوادر التي تعمل كثيرًا وتتحدث قليلًا، وهذه الثقة المعززة بالإنجاز جعلته يميل إلى التحدي، كما أشار في مقدمة ديوانه “تمثّل هذا التحدي في محاولة استعادة شغف قديم متجذر بالكتابة انشغلت عنه وأهملته لعقود” (الديوان، ص3).
عقيل نشأ في مدينة عدن، وكان محمد حسين هيثم (أمين سابق لاتحاد كتاب اليمن) من أهم رفاقه حينها، وقد شارك في إحدى المسابقات الأدبية في مطلع شبابه، وفاز بالمركز الأول. ولعل ابتعاثه للدراسة إلى الاتحاد السوفيتي شغله كثيرًا عن الكتابة، أما الموهبة فقد ظلت جذوتها حمراء تحت رماد السنين.
إن قارئ الديوان سوف يتوقف عند عتباته النصية ومفاتيحه الذهنية، ابتداء من العتبة الرئيسة التي تعني عنوان الديوان، مرورًا بالمفاتيح التوضيحية كالعنوان الجانبي للديوان والإهداء والمقدمة واللوحة.
*
“مشاعر متأينة” عنوان إشكالي، لأن التأين عملية توردها المعاجم والقواميس العلمية، وتوظيفها إبداعيًا وشعريًا يحتاج إلى وعي من نوع مختلف، فأصل الكلمة أيّون، وجمعها أيّونات، تقول موسوعة ويكيبيديا “الأيّون أو “الشاردة” -ضع خطًا أحمر تحت شاردة- هو نوع كيميائي “ذرة أو جزيء” مشحون كهربائيًا، ويمكن التمييز بين الأيونات الموجبة والأيونات السالبة”. إلى هنا وينتهي الاقتباس، وهذا يعني أن الأيون طاقة، ولكن المفارقة تكمن عندما تقترن هذه الأيونية بالمشاعر الإنسانية، فتصبح أنسنة الأيونات سهلًا وطيعًا في مخيلة الشاعر الذي يشحن هذه الأيونات بفائض من مشاعره، لتصبح في متناول اليد، ولا ريب أن هذا التشظي النشط للأيونات سيصبح كارثيًا بالمعنى الجمالي، فأي تشظٍّ مرتبط بعملية أيونية، ربما خرج عن السيطرة، وهذا الخروج التمردي مرحب به في العملية الإبداعية الإنسانية، بسبب ما تتركه من أثر إيجابي على النشاط السلمي للبشر، وفي هذا الصدد يشير قاموس المعاني إلى أن “الطبقة المتأينة تنشأ في جو الأرض بفعل الأشعة الشمسية السينية فوق البنفسجية، وتعكس الموجات اللاسلكية، وبذلك تحقق الاتصال اللاسلكي في العالم، وهو مصطلح فيزيائي”. وهذا الاتصال اللاسلكي هو الجو الشعري الذي تتحرك فيه التجربة الشعرية لنقل مشاعرها المليئة بمفردات الطبيعة التي يحتفي بها الديوان.
في الإشارة التي تركها الشاعر في مقدمة عمله آتت أكلها، لأنها قدمت لنا الثمرة الشعرية مكتملة، فالمقدمات الشعرية أحيانًا تقتل العمل الإبداعي وتشوهه، ولكنها في العمل الذي بين أيدينا بدا الأمر كأنها ضرورة شعرية، لأنها فتحت بابًا فضائيًا للقارئ، وقد سمّى الشاعر مفتتح هذه المقدمة: استهلال؛ وهذه أيضًا جاءت في سياقها البنائي، فالاستهلال في اللغة يعني “صراخ الطفل الوليد”، ما يعني ولادة إنسان.. مولودًا جديدًا سوف يحل بيننا في هذا العالم.
وبالعودة إلى مفردة مشاعر التي سبقت متأينة، وهو ما يشير إلى أننا بصدد سيل عاطفي من المشاعر، وإضافتها إلى متأينة جعلتها مشحونة جدًا وغامرة حتى ما بعد الثمالة والفيض الذي يعني: الانشطار والتشظي؛ فالضربة الاستباقية لمفردة مشاعر تحيلنا إلى أننا أمام جمالية من نوع خاص، جمالية قادرة على الذهاب إلى أبعد مدى، وهذا ما كان.
*
عنوان تفسيري آخر يسوقه الشاعر للديوان، وهو “خربشات على جدار الشعر”… خربشات بين قوسين لا تعني سوى أن من يقوم بالكتابة لايزال يحمل في أعماقه جنون ذلك الطفل الذي عرفه في طفولته.. الطفل المشاكس المتمرد الذي كبح كل ذلك الجنون إلى لحظة بعيدة جاءت في وقتها الآن، وثمة نصوص تعزز ما نذهب إليه. والمهم هو أن تلك الأحلام لم تَضعْ ولم تذهب سُدى، بل الأجمل من ذلك أن طفل الخربشات لم ينسَ نجوم لياليه البعيدة، بل حملها معه إلى أن كبر، ومثل صائد كوني للنجوم ظل يتحين الفرص للظفر بتلك الفرائس.

ثمة رؤى متداخلة تجنح إلى تأثيث الواقع بمحبة غامرة لتفاصيل الحياة العادية.. تتوقف التجربة النصية على مشارف الطبيعة كثيرًا، مستندة على أبهى التجليات، ولولا جنوح الشاعر إلى الاعتناء بالبناء الجديد في النص، لصنفتها ضمن الشعر الرومانسي


أما المعنى الظاهر للعنوان الجانبي فيفيد بأن تواضع الشاعر يثنيه عن الانطلاق مع الموهبة، فهو وعلى استحياء يريد أن يقول إن تجربته بسيطة، ولكن بتواضع الشاعر الحكيم، وقد عبر عن ذلك بالنص الافتتاحي للعمل:
تأخرت نجمة الشعر
فات أوان ظهورها المرتقب
والمساء الذي أنهكه الانتظار
تكدر وجهه
داهمت سماءه سحب القلق
وارتسمت في مداه الحائر المكفهر

ألف علامة للسؤال (ص5)
وفي مقطع آخر يريد من خلاله الشاعر أن يقوي علاقته بنكران الذات، في إشارة إلى أن الزمن لا يصلح ما أفسدته سنوات البعد، يقول تحت عنوان: استدراك:
معذرة.. من قال إني شاعر؟
يا صاحبي فات أوان الشعر
شاخ الحلم
والعمر انصرف
(ص52)
ويصر الشاعر على تذكيرنا بالعنوان الفرعي للديوان “خربشات…”، لكي يوهمنا بالحياد، بينما هو موجود داخل المتن الشعري في تجربة شعرية مكتملة الأركان، وقبل أن يودع قارئه في غلاف الديوان الأخير يقول للقارئ عليك ألا تنسى:
بينما كان الجدب يوشك على أن يسدل الستار الأخير
على مشهد الحلم
غيمة غسق هائمة
أقبلت تتهادى من وراء الشمس طيّ صدفة

وذلك الإصرار لن يجدي مع القارئ المتذوق، فالشاعر يخوض صراعًا حقيقيًا، إذ يقوم المتن الشعري داخليًا على ثيمة الاحتفاء بالطبيعة، والكون، واكتشافات حلمية مرتبطة بتجربة ليست متأينة فقط، ولكن متأنّية أيضًا، تحتفي بصوت داخلي مرتبط بشجون القلب:
سيخبرك البحر
بأني كنت هناك
فتشت في عمق زرقته الآسرة

عن شعاع يقود إليك (ص42)
التجربة الشعرية في الديوان تتحرك داخل مستويات جمالية كثيرة، ولكنا نستطيع أن نذكر مستويين: المستوى الذاتي الذي يعبر فيه الشاعر عن ذاته المنغمسة بالطبيعة ومفرداتها الساحرة التي يلجأ الشاعر لأسرها عبر التصوير الفني، والمستوى العام الذي يرتبط فيه الشاعر بقضايا الناس وأحلامهم ورؤاهم.
في الديون ثمة رؤى متداخلة تجنح إلى تأثيث الواقع بمحبة غامرة لتفاصيل الحياة العادية.. تتوقف التجربة النصية على مشارف الطبيعة كثيرًا، مستندة على أبهى التجليات، ولولا جنوح الشاعر إلى الاعتناء بالبناء الجديد في النص، لصنفتها ضمن الشعر الرومانسي، وهي كذلك، ولكن احتفاءها بالواقع وتفاصيل الحياة اليومية والهامشي رجح كفتها البنائية ضمن الشعر الحداثي المتسق مع قصيدة النثر، ولعل المقطع التالي يوضح ذلك:
ذات صيف بعيد
كان ابن أخي العدني المهندم الذي يكبرني بعام
القادم إلينا للزيارة
كلما مرت طائرة
فوق قريتنا الرابضة أعلى الجبل..

يشدو بصوت شجيّ:
يا طائرة طيري على بندر عدن
(ص14)
إذن، نستطيع أن نقول إن النَّفس التصويري اللصيق بالذات والطبيعة يتجلى في مساحة كبيرة داخل الديوان، ومن ذلك نص “توليبة حمراء رائعة”:
في مروج الروح
الغافية عند عتبات الخريف
توليبة حمراء شذية
أزهرت بغير موعد
وسط بساط سندسي
مترامي الاصفرار

للألوان في زوايا ذاكرتي الذاوية في كهف العمر حكاية عجيبة… (ص32) ويشتعل هذا التصوير في نصوص كثيرة منها: “فراشة، ذات وجد، نحلة، الورد حين يعشق، ضجر، بين شفق وغسق، سيخبرك البحر”.
وفي المستوى العام نجد انشدادًا تصويريًا إلى قضايا الناس وآلامهم وأحزانهم وأفراحهم، وفي هذا المستوى نجد التجربة متوحدة بالروح الجمعية، وفيها تضحية:
عندما كنت طفلًا: كان أترابي
يتخذون من ظهري العريض سلمًا
يقطفون من عليه ثمار الأشجار العالية
التي لم تكن تطالها أيديهم

وقاماتهم القصيرة (ص8)
ونجد هذه الجماليات التصويرية في النصوص التالية: “نجت هناء، نذر، شهرزاد الزمان، اتصال، تثاقف، ما الشعر، ملق، لأخبرك شيئًا، تماد، فارس القهقرى، بيدق، تفاصيل، صرير الثواني، كهفان ومنحدر، تذكار، ذكاء اصطناعي”.
وفي الديوان قصائد كثيرة تتفاوت جمالياتها من نص إلى آخر، إلا أن الشاعر كان حريصًا على اختيار طابع واحد لقاموسه اللغوي.

الأكثر قراءة