المشاهد نت

نصف النصر يكون سابقاً لخوض المعركة

جمال حسن

جمال حسن

كاتب صحافي يمني

حقق الحوثيون تقدماً عسكرياً مهماً شرق صنعاء، تحديداً في نهم والجوف، ولهذا عدة عوامل لا تستند بدرجة أساسية على الفوارق في العدة والعتاد.
ما تثيره التطورات الأخيرة في الحرب، هو استحالة بقاء حدود السيطرة في اليمن بين الأطراف المتنازعة، ثابتة. وعلى العكس من ذلك، ستظل متغيرة حتى يثبت طرف حضوره على الأرض، ويفرض شروطاً جديدة للسيطرة. وأنصار الحوثي لطالما ظلوا يبشرون منذ فترة طويلة بأنهم سيجتاحون مأرب، لكن هدفهم الرئيسي ليس مدينة مأرب، بل حقول نفطها.
هل سيصلون إلى هناك في الوقت الراهن؟ ربما ليس الآن، لكنهم استطاعوا توسيع سيطرتهم في الجوف، ووضعوا أقدامهم على تخوم مركز المحافظة، وأصبحوا أقرب إلى حقول النفط في مأرب على حدودها مع الجوف، وهو ما يمنحهم مساحة أوسع للمناورة والتصعيد، واستعادة استراتيجية معهودة لطالما طبقتها إدارة معاركهم. إضافة إلى أن المعارك دفعت مقاتلي “الحكومة” للتقهقر في نهم، إذ مازال المقاتلون في منطقة جبل صلب ثابتين، لكن من المحتمل أن تتم محاصرتهم نتيجة تضعضع الألوية الأخرى هناك.

في أبجديات الحرب، عندما يصل جيش إلى مرحلة لا يمكنه حسم المعركة، تصبح المفاوضات جزءاً أصيلاً، لكن بعد إنهاك الخصم وجعل التسوية بالنسبة له بمثابة طوق نجاة.


يفرض الحوثي اليوم مرحلة جديدة من الحرب، وبارتداد مباغت يعيدها إلى كفة ترجحه. بعدها سيتعامل مع ظروف المعركة بما يمكنه من خلالها فرض تهدئة، يعيد فيها الحوثيون ترتيب صفوفهم لمعركة أخرى، وهم من سيختارون الزمان والمكان لبدئها. ففي أبجديات الحرب، عندما يصل جيش إلى مرحلة لا يمكنه حسم المعركة، تصبح المفاوضات جزءاً أصيلاً، لكن بعد إنهاك الخصم وجعل التسوية بالنسبة له بمثابة طوق نجاة.
ما الذي يمتلكه الحوثيون مقارنة بخصومهم؟ ما هي الأفضلية التي تجعله الأقدر على المناورة؟ سنتحدث أولاً عن الأفضلية التي لدى الحوثي، فمنذ البداية يمتلك الحوثيون كفاءة في الجغرافية، إذ إن مناطق سيطرته مُحصنة ومؤمّنة بطبيعة جبلية قاهرة تسهم في تأمين خطوطهم الخلفية، كما تشكل ميزة أثناء الهجوم والدفاع، وتجعل الجغرافية اليمنية سهلة المنال، حتى في ظل انكماشهم. وهذا ما تحقق، فالأراضي التي خسرها الحوثيون، يصبح من الممكن استعادتها. وفي التاريخ اليمني كثير من قصص الانكماش والتحصن في المناطق الجبلية التي تمنح المدافعين أفضلية في التغلب على فوارق التسليح وحتى التنظيم. هذا ما حدث مع المطهر بن شرف الدين، الذي انكمش في حصن ثلا بمأمن من هجوم الجيش التركي الأقوى عتاداً والأكثر تنظيماً، ثم عاد وهاجم ووسع مناطق سيطرته.
وهذا، بطبيعة الحال، ما يحدث، فما إن تكون هناك فرصة للهجوم، سيعد العُدة لها، ويباغت خصومه. فالحوثي امتلك ما يجعله قادراً على الانتصار، ليس لأنه الأقوى، لكن كان الأكثر كفاءة. واستغل عنصر المباغتة في معركته، هجوم سريع، إضافة إلى نقطة بالغة الضعف في خصمه، هي عدم الاستعداد الكافي، وهذا ما يثير استفهاماً حول كفاءة القادة العسكريين، وأيضاً السياسيين التابعين للحكومة اليمنية.
يعود نجاح الحوثي وفشل القوات الموالية للحكومة في مأرب والجوف ونهم، إلى عوامل في استراتيجية الحرب، ويبدو أن خصوم الحوثي لا يفقهون بها. وتلك الأبجديات وضع قواعدها قبل 2500 عام، القائد الصيني سون أتزو، في كتابه ذائع الصيت “فن الحرب”. وبعيداً عن التحولات في طبيعة السلاح والمعارك، هناك أسس واضحة.
والعامل الأهم في قوة الحوثي، هو وحدة جبهته الداخلية، بينما خصومه يعانون من تصدعات أصبح من الصعب ردمها، بل إن الجميع مع الوقت يمكن أن يصبح تحت رحمة الحوثي، أو سيكون هناك طرف يعتمد كلياً على التدخل العسكري السعودي والإماراتي. وهذا عامل لا يمكن أن يدوم، خصوصاً مع طبيعة التغيرات التي من الممكن أن تشهدها المنطقة خلال السنوات القادمة.
يقول سون أتزو، في كتابه “فن الحرب”، الذي يعود للقرن السادس قبل الميلاد، بأن الطرف الذي لم يحدد مكان ووقت المعركة، سيعرض نفسه لهزيمة محتملة. ومؤخراً أصبح الحوثي هو الذي يختار الزمان والمكان اللذين يهاجم فيهما، ويترك لخصومه الهزائم المحتملة.

حدث العام الفائت في جبهة الضالع، وفي الوقت الذي تم صده من مدينة قعطبة، واعتبرها طرف بأنها انتصار له، ضمن تصدع واضح في الجبهة المواجهة للحوثي. بينما الأخير أمن مساحة واسعة واستراتيجية، تجعل قلب مدينة الضالع، وليس فقط قعطبة، تحت مرمى هجومه، سيعد لها حين تواتيه الفرصة.
يستهل الحوثي هذا العام هجومه نحو مارب، وهذا ما كانت تبشر به قيادات حوثية قبل عام بأنهم سيدخلون مارب. وفي الطرف الآخر توقف البعض محتفياً بخطاب محافظ مأرب، دون الانتباه للسوس الذي ينخر صفه، والمتعلق بفساد نخبه، وانعدام التنظيم اللائق والجاهزية. كما روجوا شائعات تخفي أسباب الهزيمة. ومنها قيام طيران التحالف باستهداف قوات “الشرعية” في جبل المنار، وحدثت مجزرة أدت إلى انسحاب وسيطرة الحوثي. مثل تلك الشائعات كانت شماعة لتقاعس القيادات المشرفة على جبهة نهم والجوف ومأرب، وفسادهم.
ماذا يحدث هناك، المقاتلون في الجبهات التابعة للحكومة، لم يتسلموا رواتبهم منذ 8 أشهر. ليست أكذوبة، مئات الشباب ذهبوا إلى مأرب، وتم تجنيدهم، لكن القيادات المشرفة حرمتهم من المرتبات، بينما كان شباب يجلسون في بيوتهم داخل تعز، ويتسلمون مرتبات باعتبار أنهم مجندون في مأرب، وأيضاً شباب متواجدون في مأرب ويتسلمون مرتبات باعتبار أنهم مجندون في تعز. وفي لحظة حدوث معارك يظهر القوام الواهم لجيش ابتلعته عصابة. المضحك أن قائداً عسكرياً ومسؤولاً رفيعاً يظهر ويدعو القبائل للوقوف ومواجهة الحوثي.
إذن، ما الداعي من هذا القوام المُسمى جيشاً؟ ولماذا يدخل هؤلاء البلد في حرب ليسوا لها؟ آلاف الشباب تم ضمهم إلى كشوف الجيش، ومئات في مقدمة الجبهات لا يحصلون على ذخيرة ولا رواتب، لأنهم لا ينتمون لتيار هو الذي يتحكم بصرف الرواتب.
مثل هذه السفاهات لا تحدث في جبهات الحوثي، لا يشكو أي مقاتل لديهم من هذا الإجحاف. وفي الحرب هناك فضائل يبدو أن لدى الحوثي أفضلية فيها، وأصبح اليوم يمتلك كل عناصر المفاجأة، بل يحدد متى يهاجم وأين، بينما يكتفي خصمه بتلقي الضربات، كأنه في تلك الجبهات أو مسمياته الخادعة، معسكرات، يعتقد أنها ديكور سيمنحه البقاء، أو أن بإمكانه الضغط على طرف من أجل إملاء شروطه. في الحرب إما أن تكسب أو تخسر كل شيء. والحوثي يعمل بمقولة سون أتزو: كن مستعداً لتصيد أخطاء العدو، فقد لا يأتي بدونها.

ماذا تتوقع من طرف يترك جنوده في الجبهة دون تأهب، فخلال فترة طويلة تراخت فيها وتيرة الحرب في تلك الجبهات، تعرض الجنود إلى استرخاء، يجعلهم أقل استعداداً لصد هجوم مباغت. والخطأ الجوهري هو عدم التوقع، لأن في الحرب التوقع جزء من توخي الفشل.


وماذا تتوقع من طرف يترك جنوده في الجبهة دون تأهب، فخلال فترة طويلة تراخت فيها وتيرة الحرب في تلك الجبهات، تعرض الجنود إلى استرخاء، يجعلهم أقل استعداداً لصد هجوم مباغت. والخطأ الجوهري هو عدم التوقع، لأن في الحرب التوقع جزء من توخي الفشل.
أولاً استهدف الحوثيون معسكراً في مأرب أدى إلى مقتل وإصابة العشرات. وفي الوقت الذي روج خصومه بأن الحرب في نهم كانت للثأر من الضحايا، على العكس كان الحوثي هو من بدأ الهجوم. ويبدو أن ما يتمتع به الحوثي هو خصم يذهب إلى المعركة حاملاً من الأخطاء أكثر من التنظيم. فالحوثي لم يبادر بشن الحرب دون أن يكون واثقاً من تحقيق نصر. بينما خصمه سينتظر، ويعيش مع وهم أنه صد زحفهم نحو مأرب.
والأرجح أن الحوثي لا يريد الآن دخول مأرب، ففي الجوف حقق تقدماً مهماً، يجعله بالقرب من مناطق النفط في مأرب، وسيترك لخصومه مكسباً هشاً بأنهم مازالوا متواجدين في مأرب، وستكون غايته الرئيسية اليوم، أو في الغد، كيف يقتحم مناطق حقول النفط الاستراتيجية في مأرب؟
يقول سون أتزو: إذا ثبت لدينا حسن إعداد جنودنا، وضعف إعداد جنود عدونا، نكون قد قطعنا نصف المسافة إلى النصر. أي أن الحوثي حقق نصف النصر قبل أن يبدأ المعركة.

الأكثر قراءة