المشاهد نت

المغتربون اليمنيون… معاناة مزدوجة

د. سامية عبدالمجيد الأغبري

د. سامية عبدالمجيد الأغبري

أستاذ الصحافة المساعد بكلية الإعلام - جامعة صنعاء

تشكل الهجرة والاغتراب إحدى الظواهر الاجتماعية الأبرز لليمنيين منذ انهيار الحضارات اليمنية القديمة، والتي كانت اليمن في ظلها تعيش حالة من الانتعاش الاقتصادي والتطور العمراني والسياسي والثقافي، سابقة لبلدان عديدة، ولدرجة أنها سميت من قبل اليونان “العربية السعيدة”، وجاء ذكرها في آيات عدة في القرآن الكريم، ومنها في قوله تعالى: “ولكم في سبأ آية جنتان عن يمين وشمال…”.
وكان انهيار الحضارة اليمنية -لأسباب عديدة لا مجال لذكرها في هذا السياق- هو السبب الرئيسي في الهجرات المتتالية على مر العصور، لأبناء اليمن، إلى كافة أصقاع الأرض. وكان ومازال لليمنيين أدوار إيجابية وفعالة في البلدان التي يهاجرون إليها أو يغتربون فيها.
فقد أسهموا في مختلف المجالات العلمية والعملية، ونشروا الدين الإسلامي واللغة العربية، واعتمدت اليمن على مدخرات وعوائد المغتربين سواء على المستوى الفردي أو الأسري أو المجتمعي.
وكان اليمنيون في البلدان التي يهاجرون إليها أو يغتربون فيها، يتآلفون وينسجمون مع بعضهم البعض، كأنهم أسرة واحدة متحابة. وبالرغم من التشطير الذي عانت منه اليمن قبل الوحدة، إلا أن اليمنيين المغتربين، سواء كانوا من شمال اليمن أو جنوبه أو شرقه أو غربه، كانوا قد تجاوزوا النظامين الشطريين، وشكلوا جاليات مترابطة ومتعاونة.
فعلى سبيل المثال، فإن اتحادات وروابط الطلاب اليمنيين الدارسين في الخارج قبل الوحدة، كانوا متضامنين ومتعاونين مع بعضهم في الكثير من المواقف والاتجاهات، ولم تكن هناك حساسيات أو خلافات عميقة في ما بينهم.
كما أن المغتربين اليمنيين بشكل عام، كانوا منسجمين مع بعضهم، لدرجة أن علاقاتهم توطدت لتصل في الكثير منها للتزاوج والمصاهرة في ما بينهم. وإذا واجه أحد المغتربين مشكلة أو مصيبة ما، فإن كافة اليمنيين المغتربين يتعاونون معه بدافع الانتماء الوطني لليمن قبل كل شيء.
وكان المغتربون اليمنيون يتغنون بالوحدة اليمنية، ويستمعون للأغاني الوطنية، ويتعاملون مع بعضهم دون أن يميزوا بين منطقة وأخرى في اليمن. ولازلت أتذكر حين كنت أدرس في القاهرة، موقفاً مؤثراً حدث لي عام 1983م، حينما سافرت من القاهرة إلى موسكو، بطائرة الأيرفلوت السوفيتية، ونزلت ترانزيت في مطار بودابست في المجر، لمدة 4 ساعات، وفي المطار جلس إلى جواري تلقائياً في البوفيه 3 من الشباب اليمنيين من أبناء محافظة عدن، ونادوني باسم طبيبة في المستشفى الجمهوري بعدن، فأجبت بتلقائية: أني من شمال اليمن “الجمهورية العربية اليمنية”، وهذا جوازي، فردوا عليّ بلهجة مستنكرة ومنفعلة بالقول: بل أنت ونحن من اليمن السعيد الذي يمتد من… وإلى…، نحن يمن واحد، وسيعود موحداً كما كان وأفضل. فنكست رأسي خجلاً مما أسمع، واعتذرت لهم قائلة: كنت أظن أنكم لستم مع الوحدة اليمنية، وقد أسات فهمكم.
وأتذكر أيضاً أن اليمنيين المغتربين سواء في الاتحاد السوفيتي سابقاً أو مصر أو السعودية أو أية دولة عربية أو أجنبية أخرى، كانوا يشكلون لحمة وطنية واحدة، بخاصة في المناسبات الوطنية والدينية.
أما حالياً، وخصوصاً منذ قيام الحرب اللعينة، والتدخل الخارجي في الشأن اليمني الذي زاد الطين بلة، ومزق النسيج الاجتماعي، فقد انعكس ذلك سلباً على أوضاع المغتربين اليمنيين في دول الاغتراب، سواء كانوا من المغتربين القدامى أو الجدد.
وللأسف الشديد، أن تجد تجار الحروب، ومن كانوا مسؤولين مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة عن الحرب والصراع الدائر، والتدخل الخارجي في الشأن اليمني، نقلوا خلافاتهم السياسية والفكرية والثقافية إلى بلدان الاغتراب، وبدأ كل فريق يتمترس للآخر، ويبحث عن سلبياته وهفواته، ويضخمها ويبالغ فيها إلى أقصى حد ممكن.
وتبعاً لذلك، سادت الروح العدائية بين أبناء الوطن الواحد، وعمت أزمة الثقة في ما بينهم، ولعبت مواقع التواصل الاجتماعي دوراً بارزاً في هذا الاتجاه، من تخوين واتهام بالعمالة والارتزاق أو نهب ثروات البلد وتوظيفها لمصالح شخصية، وقد ساءت سمعتهم نتاجاً لذلك.
ومن جهة أخرى، هناك بعض المغتربين اليمنيين من التجار، والذين استثمروا أموالهم في مشاريع تجارية عديدة، من أهمها افتتاح محلات تجارية ومطاعم ومدارس ومستشفيات ومراكز للفحوصات الطبية… الخ، وحين نتأمل رواد تلك المراكز والمطاعم، سنجد أن بعض المطاعم مثلاً يرتادها بشكل كبير أصحاب محافظات معينة، حسب التعاطف مع انتماء صاحب المطعم نفسه، سواء المناطقي أو القبلي أو الحزبي.
كما أن الدعم والمساعدات الطبية والتعليمية التي كانت تُمنح من قبل بعض التجار اليمنيين المغتربين لأي يمني، بغض النظر عن هويته المناطقية والقبلية والحزبية، أضحت اليوم مرتبطة بهويته المناطقية أو القبلية أو الحزبية. والأسوأ أن المغتربين تشطروا أكثر من ذي قبل، بعد أن كانوا شطرين، أصبح الانتماء للمنطقة أو العزلة أو القبيلة هو الهوية الأولى.
وجاء الموقف الذي يحدده أي مغترب من أحد أطراف النزاع في اليمن، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، هو الذي يحدد مدى طبيعة العلاقة وقوتها مع أبناء بلده من المغتربين الآخرين.
وتبعاً لذلك، أصبحت معاناة المغتربين اليمنيين مزدوجة ومركبة، ففي الوقت الذي يعانون فيه من ويلات الغربة والحنين للوطن والأهل والأحبة والأصدقاء، فإنهم أيضاً يعانون من بعضهم البعض، فلا يجدون العزاء والمواساة والرحمة من أقرب الناس إليهم. فذلك الصديق الحميم بين ليلة وضحاها تحول إلى عدو مبين، وبدأت التصنيفات السياسية والمناطقية تطغى على الانتماء لوطن واحد هو اليمن، فذلك عفاشي، إصلاحي، سلفي، حوثي، مؤتمري، اشتراكي، ناصري، بعثي، انتقالي (انفصالي). والأسوأ حين يقال ذلك إنسان طيب وخلوق ومحترم، ولكنه عفاشي أو اشتراكي أو إصلاحي، أو حوثي… الخ.
فكم يحزنني أن يتحول حال المغتربين اليمنيين بهذا الشكل، فبدلاً من أن يكونوا دعاة وحدة وسلام، تحول الكثير منهم إلى متآمرين ضد بعضهم البعض.
فإلى متى سنظل نفكر بأسلوب ضيق مناطقي وحزبي محدود الأفق ، وننسى أو نتناسى أن الوطن ليس مجرد أرض وبشر فقط، إنه هوية وتاريخ ومصير، الوطن هو مرادف للكرامة، فلا كرامة لنا كيمنيين دون أن نفكر كيف ننقذ الوطن من الصراع والحرب وجشع تجار الحروب في الداخل وأطماع القوى الخارجية التي لا تريد أن تقوم لليمن قائمة.
ألم يتعظ المغتربون مما حدث لهم بعد حرب الخليج الأولى، حين تم الاستغناء عن خدماتهم في بلدان الجوار، ورجع الكثير منهم خالي الوفاض… فلن يبقى لنا ولأبنائنا سوى الوطن، فاليمن تمتلك ثروات هائلة سواء في باطن الأرض أو ظاهرها، وموقعاً جغرافياً متميزاً، ولكنها بحاجة فقط لتكاتف أبنائها على قواسم مشتركة.

الأكثر قراءة