المشاهد نت

فوق الجمر وتحت النار

حسن العديني

حسن العديني

كاتب صحافي يمني

ليست تعز وحدها، وإنما اليمن كلها فوق الحمم.
وكانت تعز تضيء ولا تحرق. كذلك عهدها في تاريخ اليمن الممتد.
ويوم أعلنتها حكومة باسندوة عاصمة ثقافية، لقي القرار سخرية واستهجاناً من المتابعين للشأن الثقافي في البلاد. وكتبت أنا في “الجمهورية” التعزية ناقداً، لأن الإشعاع الثقافي لبلد أو مدينة لا يصنعه قرار بقدر ما يتأكد في التاريخ وتحولاته.

ولقد كانت تعز مصدر إيناع عبر عصور متطاولة، وميراث الرسوليين شاهد فصيح اللسان ومستقيم الضمير على ما أعطت المدينة وقدمت، حتى الأميرات انشغلن بالثقافة والعلم، وأقمن من أجلهما معالم ومشاهد.
أما يوم وقعت حكومة باسندوة فرمانها، فقد وضعت إمضاءها على شيك بدون رصيد، أو أنها دفعت بعملة مزورة.
إن “تعز عاصمة ثقافية” يستوجب تشييد الصروح وإعداد الأدوات التي ينبثق منها الإشعاع. وكان لزاماً مثل أي إعلان إشهار خطة بالمساحات والمباني والتصميمات الهندسية التي ستبنى عليها المسارح ودور السينما والمكتبات وصالات عرض الفنون والمراكز الثقافية ومعاهد رعاية المواهب وتخريج الكفاءات في كل علم وكل فن.
ولقد نعلم أن تعز في ماضيها القريب، كانت تضم 5 دور سينما، غير سادسة في القاعدة، وسابعة في التربة، وكانت المراكز الثقافية توزع العلم بأكثر مما يوزعون الرصاص اليوم. مركز مصري، وآخر روسي وعراقي وسوري، والكتاب الأحمر لماو تسي تونغ يخرج من السفارة الصينية قبل تغريد طيور الصباح. ثم كانت المكتبات التجارية تضج بما أنجزه العقل الإنساني من فلاسفة الإغريق، حتى آخر صرعات الشعر في العالم الحديث.
كانت المدينة مفتوحة غير مستباحة، والمعنى هو الثقة بعقل الإنسان اليمني، رغم حداثة إطلاله على الجديد، بعد أن أُرغم على النوم في (كيس) الإمامة يستنشق رائحة العرق من مسامه، وروائح أخرى لا يقوى على احتمالها البشر العاديون.
تلك المدينة محدودة المساحة، قليلة السكان، عاشت وادعة وحالمة عند أقدام جبل الكبرياء المنيف، يسقيها الماء ويطعمها التين والزيتون والرمان، قبل أن تستحلب قاته، فتنتشي وتنشد الشعر. أما وقد تورمت وانتفخ كرشها وترجرجت أردافها، فقد أخذت تنوس بين الكتاب والبندقية.

تراب تعز شرب الدم في 1955. ولقد سفه فيه سيف البطاش قاطف الرؤوس الإمام أحمد. ومن بعد ارتوت الحرية بدماء أبناء تعز، وأكلت من عظامهم ولحومهم في البقاع والأطراف المتنامية


إن تعز هذه تنزف من سنوات طويلة. ولست أدري متى كان أول الأمر، وإن كنت على يقين من أن آخره ليس بعيداً، إذ إن تعز عصية، مثلما هي اليمن، رغم الأثقال والأهوال. فيوم كانت تعز بلون الذهب، أيقظ رجالها المشاعر الوطنية، وعلى سواعدهم قامت حركة الأحرار، وبأيديهم نشأ التعليم الحديث.

إن مثقفاً وحزبياً عتيداً عاب على أحمد محمد نعمان إنشاءه مدرسة في الحجرية. ذلك ما انتقده محسن العيني في مذكراته “خمسون عاماً فوق الرمال المتحركة”، واعتبره تخلياً من النعمان عن النضال السياسي. والحق أن ذلك الإقدام من رائد حركة الأحرار، كان بمثابة دعوة حكيمة لوضع الحركة الوطنية على طريق لا تنتصب فيه المتاريس، ولا ترتفع على جنباته الرايات الحمر.

يوم كانت تعز بلون الذهب، أيقظ رجالها المشاعر الوطنية، وعلى سواعدهم قامت حركة الأحرار، وبأيديهم نشأ التعليم الحديث .


مع ذلك، فإن تراب تعز شرب الدم في 1955. ولقد سفه فيه سيف البطاش قاطف الرؤوس الإمام أحمد. ومن بعد ارتوت الحرية بدماء أبناء تعز، وأكلت من عظامهم ولحومهم في البقاع والأطراف المتنامية . لقد وهبت تعز رجالها لليمن، ولم تأكلهم مثلما تفعل اليوم كلابها والضواري.
إن هذا الجاري اليوم دخيل وغريب على روح هذه البلاد وسيماها، فهل هو لون بغيض يفيض من جماعة نبتت في حمأة الحقد، وتسلحت بسنان البغضاء؟!
للناس أن يروا ويقدروا الأشياء تقديراً.
ولا أعفي نفسي مما قد يفهم بأنه إصرار على الرواية، وتكرار للشهادة على صورة طالما رأتها عيناي على طول الزمن الممتد من سنوات الصبا إلى المنعطف بين الكهولة والشيخوخة. وإني لأرى بأم عينيَّ، تعز تنزف وتشتوي بالجحيم، في أسفلها الجمر، وفي أعلاها النار، ويوم استعرت شاهدنا من خلع عليهم الإعلام أنصع الصفات، يتحلقون حول العطايا النازلة من السماء، كما تتجمع النسور فوق الجيف، ولم تكن الصناديق التي تلقيها الطائرات سوى هدايا معبأة بالسلاح والنقود. وكذلك ظهروا على الشاشات يطلقون كلاماً شديد التقشف، وشاهداً على تواضع النشأة والمحتد مثل “الحوثي يعطف فراشه ويرجع مران”.
ومضت الأيام والشهور والدهور، وإذا جنود الحوثي ينتظمون مع رجال المقاومة في مجالس القات وليالي السهر، ويتقاسمون دورات المياه وأكواب الشاي في تشريفات القصر الرئاسي الذي هدته الطائرات.


هنالك بين القصر المحطم حيث المقاومة، والجبل الذي تقع فوقه دبابة حوثية عند أنقاض “سوفيتل”، مسافة يقطعها الضوء في دقائق من الثانية. لكن سلاح المقاومة كتم صوته، وانزوى حيياً وخجولاً، بينما شمر عن السواعد وضرب الدفوف، وانطلق غازياً وفاحشاً في العداوة ضد قوى عسكرية محسوبة على الحكومة الشرعية التي يقبض منها سلاحه ومؤونته وكسوته.
لقد خاض حرباً ضروساً ألحقت الويلات بسكان المدينة القديمة، وافترس جنوداً ومدنيين حتى ألقت بأبي العباس الموالي للشرعية، خارج المدينة، مكسور الجناح. ومن بعد أرسل النذر للواء 35 مدرع، ذلك الفصيل العسكري المحترف والمقاتل مع الشرعية. ولم يزل في جهاد ضده إلى أن نجح في اغتيال قائده عدنان الحمادي، قبل أن يذهب بالسلاح للسيطرة على الرقعة الجغرافية التي كان يحتلها.
وفي إعلامه المحموم أن مهمته القادمة تحرير المخا والبلدات المحيطة والمحاذية لباب المندب، من قوات العمالقة وحراس الجمهورية. بلى طارق صالح ينوس هناك ولا يصون، ثم إنه لا يبدي انصياعاً ولا اعترافاً بالشرعية ورئيسها، لكنه ليس حوثياً كما هم الذين يطوقون تعز من شرقها والشمال. هو في واقع الأمر يعبر عن حالة الشرعية الشاردة والغائبة عن الوعي. والشاهد أن إعلام هذا الفصيل الذي يتوثب للانقضاض على الساحل، يخلع على الرئيس هادي أقذع الأوصاف، رغم أنه يطوقه بعناصره، ويستولي على قراره.
إن قائد المقاومة الذي وعد بدحر الحوثيين إلى مران، لم يلبث أن طار إلى العواصم، وابتنى المتاجر والمعامل، ثم تجرأ ونشر صورته ملفعاً بالراية التركية الحمراء موشاة بصورة أردوغان، تعبيراً عن التضامن معه ضد الانقلاب الفاشل في 2016.
ذلك قائد المقاومة الذي جند الصبية الفقراء، وأرسلهم إلى الحدود الجنوبية للسعودية، كي يقاتلوا الحوثي، عاد وأغراهم بزيادة في المال، ليشكل منهم قوة في الحجرية جنوب تعز، أرسل أكثرهم إلى ليبيا، وأبقى آخرين في انتظار الزحف على الساحل الغربي حيث باب المندب.
ولا حديث عن القتل والاختطاف والاغتصاب والنهب والجراح والنواح الذي يلف تعز.
لا حديث.. فليست هذه تعز التي كانت.
ليست هذه، وإنما اليقين أنها ستعود أنصع وأبهى، أجمل وأكمل.

الأكثر قراءة