المشاهد نت

الانتهازية الناعمة

مصطفى ناجي

مصطفى ناجي

كاتب وباحث في الشؤون السياسية

أُعلن تشكيل حكومة جديدة، بموجب اتفاق الرياض بين الحكومة والمجلس الانتقالي. وقد طال انتظار هذه الحكومة، مع آمال كبيرة من ناحية، وتوجسات كثيرة من ناحية أخرى، بسبب ما آلت إليه الأوضاع في مناطق الشرعية، وتحديدًا في عدن وتعز، منذ فترة طويلة، وقياسًا بالتحديات التي يتوجب على هذه الحكومة مواجهتها.
إلا أن المفاجأة في هذه الحكومة هي خلوها من أي عنصر نسائي، وهي سابقة أولى مؤسفة منذ عقود في حكومات اليمن الموحد المتعاقبة.
وسبق هذا التشكيل أن شهدنا ضجيجًا نسويًّا افتراضيًّا كان شديد الصخب عندما أوشكت الأسماء على النضوج، وسرت أخبار خلو الحكومة من النساء. قادت نساء يمنيات ناشطات في المجتمع المدني في أغلبهن، وحقوقيات وموظفات دولة سابقات، هذا الحراك، ورفعن من سقف مطالبتهن بالتمثيل استنادًا إلى توصيات مخرجات الحوار بالدرجة الأساس.
انقسم المشهد العام تجاه مطالبات المرأة في التمثيل في الحكومة، بين موافق بالمجمل، وبين متحفظ يسوق أسبابًا كثيرة لتحفظه، وفريق يرى أن النسوية اليمنية هي أمر فائض عن الحاجة، وموضة غير متوطّنة محليًّا، جل الناشطات فيها يعشن خارج البلاد.

هذه الحكومة هي خطوة سياسية تعكس محاصصة سياسية بين قوى اجتماعية وجهوية في اليمن، وأن كل القوى الاجتماعية والسياسية المشتركة في هذه المحاصصة، لم تأخذ في بالها إشراك المرأة، وليس من أولوياتها، وهذا يعكس التدهور في الالتزام الاجتماعي والسياسي تجاه المرأة


والمؤسف أن حملة النساء هذه كانت مصحوبة بحملة مضادة ذهبت تفتش في الألقاب والأسماء والميول الأيديولوجية والسوابق السياسية للمطالبات، مما دفعني شخصيًّا إلى الإحجام عن أي تعليق، واكتفيت بتلميحات أرى أنها مبدئية بالنسبة لي تجاه تمثيل المرأة، وآلية تمكينها.
هناك نقاط عديدة ينبغي إثارتها في هذا الصدد، منها ما يتعلق بطبيعة المطالبة وتوقيتها وديناميتها، وتقعيد هذا الحراك في إطار المشهد الوطني الراهن.
من الواضح جدًّا أن هذه الحكومة هي خطوة سياسية تعكس محاصصة سياسية بين قوى اجتماعية وجهوية في اليمن، وأن كل القوى الاجتماعية والسياسية المشتركة في هذه المحاصصة، لم تأخذ في بالها إشراك المرأة، وليس من أولوياتها، وهذا يعكس التدهور في الالتزام الاجتماعي والسياسي تجاه المرأة، وكيف أن قضية المرأة غائبة كليًّا في اهتمام الأحزاب. بعض الأحزاب سارعت بعد فوات الأوان، إلى إصدار بيانات داعمة للمرأة، امتصاصًا للغضب، وازدراءً للقضية في آن.
وبما أن العملية برمتها سياسية، فإن الدور الأكبر في تمكين المرأة ينطلق من قنوات سياسية، أي داخل هذه الأحزاب ودوائرها الخاصة بالمرأة والنساء المنتسبات لديها. باعتبار الأحزاب هي الحامل السياسي الطبيعي. وأي تصويب لهذا الوضع ينبغي أن ينطلق من داخل الأحزاب. ولتبدأ المطالبة بالتمكين حزبيًّا، وفرض كوتا حزبية داخل كل حزب، حتى تتشكل قناة ملموسة للترقي السياسي.
إلا أننا، منذ أعوام، بل عقود، ونحن نعيش مرحلة هدم الحزب أو التشكيلات شبه السياسية، مثل النقابات، لصالح المنظمات المجتمعية التي يراد لها أن تكون غير سياسية. ونتيجة لهذا الحراك المدني، تخلقت كيانات شديدة الحضور، والحضور الإعلامي تحديدًا، ولكنها بلا قاعدة جماهيرية، ومرتهنة لخطط التمويل والبرامج التي تنفذها. وفي معظم البلدان ذات التمثيل السياسي، لا تزيد حصة المجتمع المدني على وزارة أو وزارتين، دون اشتراط أن تكون امرأة.
في اليمن، هناك تكثيف مفرط للنشاط المجتمعي، وسوء توزيع قطاعي. إذ تنشط المرأة في المجتمع المدني والنشاط الحقوقي، وتغيب عن العمل الحزبي، لأنها ربما لا ترى فيه سلّمًا سهلًا للترقي الاجتماعي، ولا مجال لكسب لقمة عيش، بالتالي تجندر العمل المدني، وأُهمِلت قطاعات أخرى حيوية.
وهذا الانزياح لم يكن تلقائيًّا، بل نتيجة تكثيف الجهود والتمويلات من المانحين الدوليين لقطاعات معينة، وإهمال غيرها، مع تخصيص مكتب المبعوث الأممي لجهود كبيرة، والاشتغال على هذا الملف أكثر من سواه، خلط العمل المدني بالسياسي، دون تجهيز بنية تحتية للعمل السياسي من تنظيم وبناء مؤسسي.
سبق أن وجه الناشط الحقوقي رياض الدبعي، نقدًا وجيهًا للكتل النسوية النشطة في خلوها من العمل المؤسسي وهشاشة كياناتها، وافتقارها لتقارير حقوقية أو قطاعية خاصة بالمرأة، وأنها لم تجمع بيانات ومعطيات يمكن التعامل معها لتناول وضع المرأة في اليمن.
سأكرر هنا ما أراه مبدئيًّا بخوص تمكين المرأة في وقت الحرب والسلم، سيما والمرأة اليمنية هي عمود الاقتصاد المنزلي والفاعل الأهم في اقتصاد الريف، كما أنها تتحمل العبء الأكبر في هذه الحرب تشردًا وقسوة وتلقيًا للعنف بكل أشكاله الذي تضاعف بسبب الحرب.
وتمكينها لا يتم عبر تعيينات رمزية فقط -هي جيدة لإثبات حسن نوايا- ولكن من خلال منحها القدرة على الاستقلال المالي، والقدرة على اتخاذ القرار، ودمجها في المنظومة التعليمية، وتعزيز حضورها إداريًّا في الوظيفة العامة، وإتاحة فرصة التدرج الوظيفي، وتنفيذ استراتيجية إعلامية خاصة بالنهوض بقضايا المرأة حتى تصل إلى سنام الوظيفة العامة، بالتالي تتحول هذه الخطوات إلى مكتسبات أصيلة تراكمية لا يمحوها تغير مزاج الحاكم، لأنها لم تكن هبة، إنما اكتساب بجدارة واستحقاق وتفاعل وعطاء.

يؤسفني كثيرًا متابعتي لشعارات الحملة النسوية هذه، التي تهدد بعدم الاعتراف بشرعية الحكومة بسبب خلوها من المرأة، وأجد هذا الشعار شططًا وأنانية غير متسقة مع صعوبات اليمنيين ممن تتكثف الشرعية بالنسبة لهم في قدرة الحكومة على تأمين حاجاتهم الأساسية، ودفع رواتب الموظفين، ورد الموت عنهم بسبب قذائف الحرب، واستعادة دولتهم التي تكفل لهم حقوقهم وكرامتهم.


في حين أن الضغط من أجل الحصول على منصب أو اثنين، أو حتى مناصفة في المقاعد الحكومية، بينما البرلمان يخلو من النساء، وكذلك الوظائف العليا، هو إفراغ للتمكين من معانيه الحقيقية، وليس أكثر من تهافت على المناصب، وانتهازية ناعمة.
أعرف تمامًا أن ما أكتبه هنا هو تهور، وسيجلب عليَّ عداوات لا تنقصني -إذ ليس من الحكمة نكش عش الدبابير- إلا أني أفعل ذلك عن قناعة موضوعية تمليها عليَّ وظيفيتي كباحث، وتميلها عليَّ انشغالاتي الوطنية أساساً.
وقد أشرت منذ اليوم الأول للحراك النسوي حول المناصب في الحكومة، إلى أنه ينبغي أن تكون الأحزاب هي المدخل، وكتبت بعدها أنه على النشاطات اللجوء إلى المحكمة الإدارية لنقض قرار تشكيل الحكومة، وذلك رغبة مني في طرق أبواب الإدارة العامة، وتفعيل القانون، وتعزيز النشاط الدولتي، والدفع إلى اكتشاف أين هي هذه الدولة التي تتمنى الأخوات الدخول في حكومتها، وكيف أن حضور أو غياب محكمة إدارية هو المؤشر الصريح على وجود أو غياب شرعية.
ويؤسفني كثيرًا متابعتي لشعارات الحملة النسوية هذه، التي تهدد بعدم الاعتراف بشرعية الحكومة بسبب خلوها من المرأة، وأجد هذا الشعار شططًا وأنانية غير متسقة مع صعوبات اليمنيين ممن تتكثف الشرعية بالنسبة لهم في قدرة الحكومة على تأمين حاجاتهم الأساسية، ودفع رواتب الموظفين، ورد الموت عنهم بسبب قذائف الحرب، واستعادة دولتهم التي تكفل لهم حقوقهم وكرامتهم.
لكن ملاحظتي الأساس في هذا الحراك، هي أنه يجمع شمل النساء لمجرد أنهن نساء، دون الاتساق مع المعركة اليمنية والموقف من مسألة الدولة والجمهورية، إذ تتكتل نساء لهن مواقف ضد الدولة، ساندن الحوثي، أو طعنَّ في شرعية الحكومة، أو يدعمن انفصال البلاد، ثم يردن الالتحاق بالحكومة التي يعملن ليل نهار على تشجيع هدمها.
الخلاصة: نجح المبعوث الخاص جريفيث، في جمع نساء، وجندرة مسألة السلام، دون اعتبار للجذور السياسية للمشكلة اليمنية، وتخلقت لنا قشرة نشاط سياسي دون سند اجتماعي، ودون اتكاء على مرجع سياسي أو قانوني في النظر إلى الشأن اليمني. بالتالي كانت المطالبة منفصلة عن الواقع، وترى أن شرعية الحكومة تتمثل في ضمها للنساء، وليس في مضامين اجتماعية واقتصادية وقانونية أخرى.
بل إن التعبئة المكثفة إعلاميًّا لنشاطات المبعوث حول المرأة -مع نبل الهدف- خلقت تضخم ذات كبيرًا في المطالبة على هذا النحو، بالتالي يضعف دور المرأة في القضية اليمنية، وتقديمها على أنها أنانية منحصرة في منافع مجموعة من النساء امتيازهن الوحيد هو علاقاتهن الخارجية التي ستوظف للضغط على الحكومة، وإجادتهن اللغة الإنجليزية، بالتالي لا يمثلن غالبية النساء اليمنيات الأميات، وهمومهن في الحرب والسلم.
لا بد من العودة إلى العمل الحزبي لتعزيز الحياة السياسية لليمنيين رجالًا ونساء، كما ينبغي الاستناد إلى موقف أخلاقي وقانوني في القضية اليمنية، يتجاوز حالة تسييل الحرب، وقضية الدولة والنظام السياسي. ينبغي أيضًا تعزيز البناء المؤسسي لمنظمات المجتمع المدني، ومنها المنظمات المعنية بقضية أو قضايا المرأة، وما اكثرها، حتى تكون هذه الكيانات أكثر فاعلية.

الأكثر قراءة