المشاهد نت

ضحايا السفر في اليمن حرب أخرى

د.سامية عبدالمجيد الأغبري

د.سامية عبدالمجيد الأغبري

أستاذ الصحافة المساعد بكلية الإعلام - جامعة صنعاء

لا يكاد يمر يوم واحد إلا ويتناهى إلى مسامعنا أو نشاهد عبر القنوات الفضائية أو مواقع التواصل الاجتماعي حوادث الطرقات والسفر الطويل، التي تدمي القلب، وتجعلنا في حالة ذهول، ويصبح المواطن اليمني بين نيران الغلاء الفاحش والمرض الذي ينهش فيه ولا يجد له علاجًا، وبين الرغبة الملحة في السفر للبحث عن حلول لمعاناته المتشعبة والتي لا تنتهي، فيكون السفر -في الغالب- هروبًا إلى المصير المجهول، كالغريق الذي يتعلق بقشة.
كم يا مسافرين تلتهمهم طرقات الموت المليئة بالحفر والمطبات، فقد أصبح السفر بين مدن وقرى اليمن مجازفة غير محسوبة العواقب، فمن ينجو من براثن موت محقق، يصاب بشلل أو في أحسن الأحوال يظل أسبوعًا في حالة إعياء لا يفكر بأنه وصل بالسلامة مقارنة بغيره فحسب، ولكن باله ينشغل بكيفية العودة من تلك الطرق المرعبة وغير المأمونة.
فكم من أسر بأكملها تلقى حتفها، وأحيانًا تبقى طفلة صغيرة حية كي تكون شاهدة في المستقبل على ما خلفته الحرب من مآسٍ لا حدود لها، وقد يصاب بعض الأطفال بعاهات من تلك الحوادث الفظيعة.
لم يعد السفر بين المدن والقرى ممتعًا كأيام زمان، فحين يعود بي شريط الذكريات إلى منتصف السبعينيات ويداية الثمانينيات، وحتى قبل الحرب اللعينة، كان السفر رحلة ممتعة نتسابق مع أخواتي على الظفر بها كل عام، فكنا حين نسافر سواء مع أحد الأقارب في سيارته الخاصة أو بالحافلة أو سيارة البيجوت، تكون رحلة ممتعة نستمع خلال السفر للأغاني الشعبية حسب مزاج صاحب الباص والركاب، من أيوب طارش لأبو بكر سالم للآنسي والسمة… وغيرهم.
وكنا نقف في أماكن مريحة نمتع عيوننا بالنظر إلى تدفق مياه الأودية واخضرار الأرض، والهواء العليل، وكان المزارعون يقفون على قارعة الطرق الطويلة لبيع منتجاتهم للمسافرين من كل ما لذ وطاب من الخضار والفاكهة الطازجة، وبأسعار زهيدة، وهناك من يبعن الفل والكاذي والرياحين والحلويات وغيرها من المنتجات.

أصبح السفر بين مدن وقرى اليمن مجازفة غير محسوبة العواقب، فمن ينجو من براثن موت محقق،


ولم نكن نسمع إلا في ما ندر عن حوادث طرق السفر، وإن حدثت فمعظمها تكون بسبب تهور السائق وعدم صيانته للسيارة قبل السفر، أو لأنه لم ينم لأكثر من يوم، أو مخزن قات أو محشش، أو شرب كحول (…).
كما كانت تتم صيانة الطرقات بين الحين والآخر، علاوة على أنها طرق السفر المتعارف عليها، في حين أن الحرب أدت إلى استحداث طرق لا تصلح لأن تكون طرق سفر طويل… فقد تدمرت البنية التحتية لمعظم طرق السفر، سواء بفعل العوامل الطبيعية كالأمطار والسيول، أو بسبب الضرب لبعض الطرق من قبل الطيران، أو زرع الألغام فيها من قبل أطراف الصراع، فأصبحت طرقًا غير مأمونة على الإطلاق.
فتم استحداث طرق جديدة، ولكنها ليست مؤهلة لتكون طرق سفر طويل، حيث إنها لم تعبّد، ولم يتم تأهيلها، فتمتلئ بالحفر والمطبات والالتواءات والانحناءات، فلا تصلح حتى للسير بالوسائل البدائية كالدواب.
وأصبحت تلك الطرق المستحدثة وغير المهيأة للسفر من خلالها هي المجال الوحيد للمسافرين، فلا طيران بين المدن والقرى، ولا سكك حديدية من الأصل، وأضحى حال المواطن اليمني كما يقول المثل الدارج “يا هارب من الموت يا ملاقيه”. فتحولت طرقات السفر إلى طرق للموت.
فحين تسافر من صنعاء إلى عدن والعكس، ستواجهك طرق ملتوية ووعرة، وستظل تشهّد وتكبّر طوال الوقت، ويكون السفر عذابًا آخر لك، وكأنك تسير بطريق جهنم. تخيلوا سيلًا من الحافلات والباصات الصغيرة والمتوسطة المسماة شعبيًا “الهايس”، وكذا السيارات الصغيرة والسيارات الصالون، علاوة على الناقلات المتعددة الأحجام، ومعظمها كبيرة، وهي ناقلات للبضائع وأكياس الدقيق والأسمنت والحجارة والمشتقات النفطية والمحاصيل الزراعية وغيرها.
وتسمى الناقلات الكبيرة للبضائع والمشتقات النفطية “الدينات”، وما أدراك ما “الدينات”؟ إنها ناقلات ضخمة، تفترش الطريق طولًا وعرضًا، وحين تواجه منعطفًا -وكثيرة هي المنعطفات والمنحنيات في طرق الحرب-عفوًا السفر المستحدثة، فيكون التفافها مرعبًا، حيث يكتم المسافرون في السيارات والحافلات التي وراءها، أنفاسهم، ويشهّدون ويدعون الله بأن تمر الناقلة بسلام.
وكم قفزت إلى ذهني فكرة جهنمية، وهي أن يتم عمل أفلام رعب واقعية من خلال تصوير تلك الناقلات العملاقة وهي تحاول تجاوز الطرق الوعرة بصعوبة بالغة، فتراها وهي تلتف حول الجبال الشاهقة وغير المعبّدة، كأنها ثعبان يتلوى من الألم، فهي تسير ببطء السلحفاة، وتتوقف حركة المرور لأجلها، وتظل العيون شاخصة والقلوب ترتجف، حتى تتمكن تلك الناقلة من تجاوز المنعطف.
والمشكلة الأكثر سوءًا، أنها ليست ناقلة واحدة، وإنما عشرات ومئات الناقلات اللتي تتحكم في حركة المرور، وتعرقل حركة السير لبقية وسائل النقل للركاب الذين يعاني بعضهم من أمراض خطرة، ويكونون في حالة إسعاف، ويحدث أن يتوفى البعض منهم في تلك الطرق قبل أن يصل لمبتغاه.
ولا يجرؤ أحد على الاقتراب من تلك الناقلات أو محاولة التفكير بذلك، وكل ما يحدث هو أن يركن أصحاب الحافلات والباصات المتوسطة والسيارات باختلافها، وسائل النقل التابعة لهم، ويوقفوها تمامًا، وينزلوا منها، فبعضهم يستند على جذع شجرة إن وجدت، أو على صخرة، ويبدأ بتعاطي القات أو نفث دخان السجائر، والبعض يبحث عن مكان للعائلات كي يأخذن قسطًا من الراحة.
والبعض من الشباب الذين لديهم خبرة بتلك الطرق، يتجهون صوب الناقلة، ويزيلون الحجارة وما يعوق مسيرتها، ويقدمون مقترحات في كيفية خروج الناقلة من المنعطف بسلام.
أتذكر عندما كنت قادمة من عدن إلى صنعاء بحافلة لشركة معروفة ومريحة الكراسي فيها، إلا أن السفر فيها من عدن إلى صنعاء استغرق 24 ساعة بالتمام والكمال. فقبل أن تنطلق الحافلة من الطريق السهل الذي يتجه بنا إلى نقيل القبيطة، كان هناك سيارات قادمة من ذلك النقيل المشؤوم، وقيل للحافلات المتجهة له ومنها الناقلة التي كنت فيها، أن نقيل القبيطة مسدود بالقاطرات والناقلات الكبيرة، وأنه قد يتأخر هناك ليومين أو أكثر، لكن السائق لم يبالِ!
وحين اقترح عليه أحد الركاب التوجه من طريق حيفان، أوضح السائق أنها أشد خطورة، لأن السيل فيها، وما كان منا إلا أن وكلنا أمرنا لله، وسار بنا السائق بالبركة، رغم معرفة المخاطر، فكان توجهنا لنقيل القبيطة، وما إن وصلنا ووقفنا أمام أحد المطاعم للغداء والفطور معًا، فوجئنا بسيل جارف من السيارات والحافلات والناقلات والقاطرات تسد الطريق في منعطف بعيد.
نزل صاحب الحافلة والركاب من الرجال، وبحثوا لهم عن مكان يستريحون فيه، ويتعاطون القات في الهواء الطلق، وكأن الركاب من العائلات داخل الحافلة لا يعنونهم، ويتعالى صراخ الأطفال، وأنين النساء كبيرات السن من ألم العظام، ولا أحد يلقي لهن بالًا.
مرت ساعة وساعتان وثلاث… والطريق واقف تمامًا، لا حركة نزول أو طلوع سوى للسيارات الصغيرة أو الباصات الصغيرة والمتوسطة أو الدراجات النارية، فيما الحافلات الكبيرة واقفة دون حراك، فلا يمكنها أن تمر من جوار الناقلات والقاطرات الضخمة، نظرًا لضيق الطريق ووعورته، وإلا ستكون في خبر كان.
وبينما نحن في حيرة من أمرنا لا يمكننا العودة لعدن لأن سيل السيارات من خلفنا ومن أمامنا عوقنا عن الحركة، وحالنا يشبه حال طارق بن زياد حين قال البحر من أمامنا والعدو من خلفنا أين المفر.
أصيب الركاب باليأس واستسلموا للقدر الذي صنعوه بمخيلتهم، وعطلوا قوى التفكير، فمنهم من حاول النوم، ومنهم من تعاطى القات تحت ظل شجرة شاحبة ومتهالكة، ومنهم من ظل يسير على غير هدى، وفجأة جاء أحد رسل الويل ونذير الشر ليقول لنا بكل برود: شكلكم بتجلسوا يومين بالطريق، الناقلة بركت. نظرت للطريق، وتخيلت كيف سيحل علينا الليل، وكيف لن نجد ما نأكله أو نشربه.
فخرجت كالمذعورة من الحافلة أطلق اللعنات على تجار الحروب، وأحفز الركاب والشباب على محاولة إيجاد حل لما نحن فيه، فلا يمكننا الاستسلام، لا بد من حل. ويبدو أن نذير الشؤم وصيحاتي أفاقتهم من غلفتهم، وبدأوا يشعرون بخطورة الحال.
توجه الشباب سيرًا على الأقدام، وتحركت الحافلة، وبدأ الكل يطلق صفارات الإنذار لمحاولة حث الناقلة المتعسرة بالتحرك وإفساح المجال لغيرها، ولم تمر ساعة زمن إلا وتحركت الناقلة والناس تهلل كأنهم انتصروا في معركة.
وتحركت الحافلات، ومنها حافلتنا، تحت إلحاحنا للسائق، وخرجنا من نقيل القبيطة المنعطف الخطير، وهللنا وكبرنا، كأننا انتصرنا على إسرائيل وأمريكا، وهدأت نفوسنا المتعبة، وسمعنا بعدها بساعات قلائل أن نقيل القبيطة انغلق بقاطرة عملت حادثًا خطيرًا. حمدنا الله أننا نجونا بأعجوبة.
ورغم وعورة الطريق ومتاعبه، لكننا شعرنا بأننا تجاوزنا الخطر، وأصبحنا بمأمن، ولكن لم تدم راحتنا طويلًا، فلم تعد وعورة الطريق وصعوبته هي مصدر إزعاجنا فقط، وإنما بدأت نقاط التفتيش والجباية تعوقنا عن السير، وكان يلزم السائق والركاب بالنزول من الحافلة التي تحوي حوالي 50 راكبًا كي يتم تفتيش عفشهم من ملابس وغيرها، وأخذ بطائقهم والتحقيق معهم، ولم يرحموا صغيرًا أو كبيرًا.
نظر أحدهم إليّ، وحدث السائق بالقول: هل هذي يمنية؟ فرد عليه السائق باستخفاف: نعم كله بلدي، استشطت غيظًا حين يشبهني السائق وأمثالي من النسوة بالدجاج أو ما شابه ذلك، وكأننا كنساء أدنى مرتبة منهم، فأخرجت بطاقتي وتحدثت للعسكري أو الضباط بالقول: أني مواطنة يمنية، وهذه بطاقتي. نظر العسكري إلى البطاقة شزرًا، ووجه حديثه للسائق بالقول: أين محرمها؟ فرد عليه أحد الركاب بالقول: هذي خالتي. فصمت العسكري.
واضطررت إلى السكوت، ووضعت رأسي على المنضدة التي أمامي من شدة الإعياء، لعل العسكري يرحم حالنا، لكن التفتيش استمر لأكثر من ساعة ونصف، وكنا كلما اقتربنا من العاصمة صنعاء، زاد إيقافنا وتفتيشنا والتحقيق معنا بسبب قدومنا من عدن.
والمتعب أن الإيقاف والتفتيش كان يتم بين نقاط متقاربة، ولا يتم إعطاء السائق ما يدل على أنه تم تفتيشه. كنا في منتهى التعب والإرهاق، ولم يعد بإمكاننا تحمل المزيد، فقلت للسائق حرام اللي يحصل، أيش المطلوب؟ رد أحد الركاب يريدوا فلوس. قلت للسائق لا إراديًا هذي مساهمتي ألف ريال، ولو كل راكب يعطيك مائة أو مائتي ريال كنا خلصنا.
قلت له بحزم في المحطة القادمة سلمهم الفلوس وخلصنا، تعبنا. وبالفعل كانت المحطة التالية، وسلمهم المبلغ، وسمحوا لنا بالمرور، بعد تفتيش بسيط، وندمت كثيرًا أنني سافرت بالحافلة، لأننا بالسيارة الهايس حتى لو تم تفتيشنا يكون العدد قليلًا، ونأخذ وقتًا أقل، عكس الحافلات.
فعند سفري لعدن مع بعض الصحفيين، بسيارة خاصة تتبع شركات نقل بالدولار من 250 دولارًا وما فوق في الرحلة الواحدة، عرضوا عليّ أن أرافقهم السفر لعدن، فهم اثنان فقط، ويوجد مكان شاغر، وهي فرصة لي ولهم، ولكن حين توجهوا للحجز لي معهم، قيل لهم لا بد من موافقة ولي أمري على سفري لعدن، اندهشوا وقال لهم أحد الصحفيين: هي خالتي وعمرها 60 سنة، لكنهم أصروا على موافقة ولي الأمر، وأعطوه ورقة يملأها ويوقع عليها ولي الأمر.
والمضحك والمحزن في الأمر أن ولي أمري هو من يعتبرني أمه، وأخته الأكبر منه سنًا، ولكن ما باليد حيلة، اضطررت أن أجعله يوقع على الورقة، وعرضت الورقة ببعض النقاط فقط.. !
وتغاضيت عن كل ذلك في سبيل سفر مريح، مع رفقة رائعة من طلابي الصحفيين الخريجين. وكانت الرحلة ممتعة وغير شاقة، وذكرتني بالسفر أيام زمان، نتدلل على السائق يوقفنا أين ومتى ما أردنا، ووصلنا عدن قبل المغرب، ولم نتعب سوى تعب بسيط، فالسيارة مريحة ومكيّفة، والسائق مهذب وتحت أمرنا في أية لحظة، وأوصل كل منا إلى مقر سكنه أو إقامته دون تذمر.
ومع ذلك، يظل السفر رحلة عناء وشقاء لا مثيل لها للغالبية العظمى من المواطنين الذين لا يمكنهم الحجز والسفر بسيارات خاصة بالدولار، ولذلك كنت أتوقع أن تكون قضية طرق السفر وإعادة فتح الطرق الرسمية وتأهيلها، هي أولوية عند الاتفاق على الهدنة أو المصالحة أو فتح مطار صنعاء، فهناك أيضًا من يسافرون من مدن لأخرى ومن القرية للمدنية والعكس.

الأكثر قراءة