المشاهد نت

توظيف السلام لتمرير خدع حرب

عبدالعالم بجاش

عبدالعالم بجاش

كاتب صحافي يمني

الحرب خدعة، لكن هل يمكن لعملية السلام والهدن أن تغدو وسيلة خداع متاحًا لطرف استغلالها ضد طرف آخر؟
في المأزق اليمني، تنظر الأمم المتحدة للهدنة، منذ مطلع أبريل، وتمديداتها، كاختراق هام نحو حل شامل لا ملامح له واضحة غير اللعب على عامل الوقت للذهاب نحو شمال حوثي تحت نفوذ إيران، وجنوب منقسم.. وتبدو الإدارة الأمريكية من الرئيس إلى المبعوث مهتمة فوق العادة بترسيخ الهدنة بأسسها؛ مطار صنعاء وميناء الحديدة، بما يلبي مصالح الانقلابيين الحوثيين، وتشدد على وجوب أن تراوح قوات كل الأطراف مكانها.
لكن الأمم المتحدة لا تنظر مطلقًا للخروقات وخطورتها ومن طرف من؟ كاستمرار التحشيد والتجييش العدائي للمتمردين الحوثيين إلى تعز، وفتح معسكرات تدريب، ما يوحي بنوايا مبيتة للانقضاض على مدينة تعز بدل فتح الطرقات، والتخطيط لاحتلال المدينة بدل إنهاء التعنت وتخفيف المعاناة.. يذكرنا ذلك بسابقة سيئة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي في عهد المبعوث الأممي السابق إلى اليمن، البريطاني غريفيث، عندما تجاهلوا التصعيد الحوثي نحو مأرب وأضخم حملات عسكرية سيرتها جماعة الحوثي للهيمنة على مأرب، وتبين لاحقًا أن أطراف عدة كانوا بانتظار أو يتوقعون سقوط مدينة مأرب (تصريحات السفير الفرنسي لدى اليمن، وتصريحات المبعوث الأمريكي لوسائل إعلام)، ورأينا أن بعضهم صدقوا بسهولة كذبة إيرانية حوثية روج لها آنذاك بأن الحرب ستنتهي بمجرد سيطرة الحوثيين على مدينة مأرب، وأن ذلك سيتم خلال أسابيع .. لقد كلفت طهران نفسها وأرسلت أحد كبار مستشاري خامنئي إلى لبنان والعراق، لترويج ذلك، وليتضح أن حبل الكذب الإيراني قصير.. فما من تحرك إيراني أو حوثي من هذا القبيل، وإزجاء وعود بالامتثال للسلام وإنهاء النزاع ووقف الحرب، إلا وتبين أنه مجرد تكتيك لا أكثر لكسب مزيد من الوقت والتلاعب بالأطراف الأخرى.
وثمة مؤشرات أن الأمر يتكرر حاليًا بشأن تعز، مستغلًا الصراع الروسي الأمريكي والملف الأوكراني، وحالة الاهتمام الأمريكي فوق العادة بترسيخ الهدنة وتحويلها إلى سلام دائم زائف ولا أساس فعليًا له.
الأمم المتحدة تعي وتقول إن ملف تعز هو أكبر عقدة في النزاع، لكنها طيلة سبع سنوات لم تتحدث، ولو مرة واحدة، عن اتخاذ التدبير الفعال في مثل هذه الحالات، وهو البحث بشأن إرسال قوات حفظ سلام دولية لفض النزاع وفتح وتأمين الطرقات.

الأمم المتحدة تعي وتقول إن ملف تعز هو أكبر عقدة في النزاع، لكنها طيلة سبع سنوات لم تتحدث، ولو مرة واحدة، عن اتخاذ التدبير الفعال في مثل هذه الحالات، وهو البحث بشأن إرسال قوات حفظ سلام دولية لفض النزاع وفتح وتأمين الطرقات.


الخلافات العميقة حول فتح الطرقات تسد آفاق التسوية المأمولة أمميًا، وتعرقل الانتقال لملفات أخرى؛ المرتبات، البنك المركزي وغيرها.. كان ذلك قبل أن يتنازل المجلس الرئاسي من جديد، ويتم الحديث عن قبوله بشأن ترتيبات عقد مفاوضات مع جماعة الحوثيين قريبًا، قبل ذلك كان موقفه رفض الانتقال لمناقشة أي ملفات أخرى ما لم يتم أولًا فتح الطرقات في تعز والمحافظات الأخرى.
بالنسبة للمجلس الرئاسي والحكومة الشرعية شق طريق فرعي عسكري في تعز من طرف واحد، هم الحوثيون، وتقديمه كحل، هو خديعة بمثابة استغلال هدنة أممية لتحقيق هدف عسكري.
هناك قلق حقيقي في أوساط اليمنيين المناهضين للانقلاب الحوثي، من أن يكون المبعوث الأمريكي وكافة رسل ومبعوثي المجتمع الدولي قد نجحوا تمامًا في تحويل مجلس قيادة رئاسي إلى مجموعة ناشطين مدنيين من مراكزهم السابقة كقادة سياسيين وعسكريين يمثلون الشرعية بكافة قواها وأطيافها.
في مدينة تعز جاء المستشار العسكري للمبعوث الأممي، واجتمع مع قيادة السلطة المحلية للمحافظة (شرعية)، وطرح عليهم القبول بمقترح الحوثيين، وقيل له إن الطريق المقترح من جانب الانقلابيين وقيامهم بأعمال شق لطريق فرعي، إنما هو لأغراض عسكرية يخططون لها.
تريد الأمم المتحدة، حسب أقوالها، حل مسألة فتح الطرقات، خصوصًا في تعز، أفعالها توحي بالعكس، ومبعوثوها عادة يمسون وقد تحولوا من دور وسيط أممي إلى دور تمرير مخطط حوثي إيراني، وجعله أمرًا واقعًا.
ذلك أن قيادة الشرعية صمتت في المرحلة السابقة تجاه أنشطة أممية استغلها الحوثيون لمصلحة مفاقمة النزاع وتعميق الصراع (تمويل دولي لطباعة كتب محرفة أدخلت عليها جماعة الحوثي تعديلات ومحتوى طائفيًا يحرض على العنف)، وأخطر من ذلك سجلت واقعة خطيرة في أكتوبر 2019، تم فيها استخدام تحركات منظمة أممية (برنامج الغذاء العالمي) كجزء من نشاط عسكري حوثي، وغطاء لعملية هجوم حربية في الدريهمي جنوب الحديدة.
كلما طال الوقت، واستمر الانقسام بين مكونات الشرعية والقيود على التحرك العسكري بما يتناسب مع حجم التصعيد الحوثي، تتوفر فرص ترويج فكرة التقسيم إلى شمال للحوثيين وجنوب للجنوبيين.
تدور اليمن والسعودية والخليج والمنطقة في دوامة كذبة أمريكية متضخمة، تلك الكذبة أعلنها وزير الدفاع الأمريكي السابق ماتيس، عام 2018، عندما قال إن انخراط الحوثيين في جهود السلام سيضمن لهم تمثيلًا في الحكم، وسيحصلون على منطقة حكم ذاتي ليسمعوا صوتهم للعالم، وأنهم عندئذ سيتركون إيران، ويقطعون صلتهم بها.
وعلى حافة الدوامة هذه، يواصل المبعوث الأمريكي وكامل الإدارة الأمريكية، تسويق كذبتهم الكبرى بشأن إمكانية فصل الحوثيين عن إيران، واستمالتهم إلى جانب السعودية.
بعد زيارته مدينة تعز، وفشله في إقناع السلطة المحلية بقبول المقترح الحوثي “الفخ”، المستشار العسكري للمبعوث الأممي زار مدينة الحديدة التي تسيطر عليها جماعة الحوثي الانقلابية، وهناك التقى إدارة حوثية لمركز نزع الألغام، ووعدهم بتبني مطالبهم والرفع بها ليتم تزويد المركز بالمتطلبات والتمويل، هذا والعالم كله يعلم أن الحوثيين لا ينزعون ألغامًا، بل يزرعونها، وأنهم الطرف الوحيد الذي يزرع الألغام في اليمن، وأنهم الجماعة المسؤولة عن زراعة أكبر عدد من الألغام بما يتحاوز مليوني لغم في أراضي اليمن ومياهه الإقليمية.
وإذن، كثير مواقف أممية لا تعدو كونها محاولة استمالة أو إثبات حياد، بل تتعدى إلى سوء استخدام وظيفي، وحرف لجهود السلام بتحويلها إلى أداة لتسهيل لعبة الخداع الحوثية، وتمرير مخططات تقوض أسس السلام الفعلية، وفي الوقت الراهن تعيد للأذهان سيناريو الحديدة وخطواته المتدرجة، والريبة من محاولة تمهيد الطريق لصالح طرف الحوثيين حتى يتسنى لهم ابتلاع مدينة تعز عسكريًا، ظنًا من الأمم المتحدة أن ذلك يطوي الملف المعقد، ويسرع الوصول إلى حل للأزمة عبر مفاوضات شاملة.
والواقع أن ذلك سيعقد الأزمة أكثر، وسيدفع إلى انفجار الوضع عسكريًا، وعودة المعارك أعنف من السابق.
الضغط الأممي على طرف واحد لا يسهل سبل السلام، وادعاء عدم مقدرة الأمم المتحدة على ممارسة ضغط على الحوثيين كونهم مليشيا، رؤية قاصرة، كما أن الانحناء حسب مقتضيات إقليمية ودولية راهنة على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، يلغي من اعتباره مصلحة الشرعية في تعز وأهالي وسكان المدينة، والتهديد البالغ في حال تغير الوضع العسكري أكثر لصالح الانقلابيين الحوثيين.
خشية المجتمع الدولي من انهيار الهدنة في اليمن لا يبرر مطلقًا تجاهل التحركات التصعيدية المكثفة من قبل الحوثيين، بخاصة في غرب مدينة تعز، والهادف بوضوح لإعادة تطويق وحصار المدينة من الغرب، وهو المنفذ الوحيد.
حتى اليوم، المجلس الرئاسي يقدم تنازلات، وينفذ إملاءات أمريكية وغربية، ولا يخط لنفسه مسارًا ولو سريًا يضمن إنقاذ الموقف عند الضرورة، ويجعله ذلك موضع سخط شعبي متزايد.
يصبح الدور الأممي في حقيقته أداة لتطويع الشعب اليمني وقيادته الشرعية للقبول بالانقلاب الحوثي وشرعنته ومكافأته.
علامات عديدة تعيد إلى الأجواء فخ الحديدة، بدافع حاجة المجتمع الدولي لطي ملف الأزمة اليمنية بأسرع ما يمكن، ولو كان على حساب حياة ومستقبل الشعب اليمني، وما يراد فرضه، وشرعنة جماعة أقلية تمارس التمييز والاستعباد لغالبية الشعب، وتزداد عنفًا وقمعًا للحقوق والحريات ونهبًا جائرًا للموارد والأموال والممتلكات العامة والخاصة، حتى إن المجتمع الدولي والأمم المتحدة لم يتطرقا إلى اليوم إلى نظام الأبارتهايد الذي تكرسه الجماعة الانقلابية الحوثية في اليمن، على أهميته، باعتباره جذر النزاع.. فكيف يمكن حل وإنهاء نزاع وأنت تتجاهل جذره؟

هناك استهجان واسع لفكرة السماح للتصعيد والتحشيد الحوثي بالحركة دون رد، واستمرار تقييد الجيش، استمرار تساهل المجلس الرئاسي واستسلامه للضغط الخارجي والأممي، وتجميده للتحركات العسكرية الضرورية للردع، بات مصدر مشكلة له مع أنصاره، وقد يتحول لأزمة ثقة.


تسخير وتحوير جهود السلام لتسهيل عملية خداع، لها تبعات خطيرة، وما يمكن أن تؤول إليه الأمور في حال تحول الدور الأممي لفرض خطط حوثية هدفها عسكري بالأساس لا صلة لها بالسلام أو الهدنة والتزاماتها، بل محاولات مستميتة لتكرار سيناريو الحديدة مع تعز، أو السير نحو شمال للانقلابيين الحوثيين وجنوب للمجلس الانتقالي الجنوبي، لمجرد أن الأطراف الدولية والطرف الإقليمي لا يبالون لفكرة التضحية بمناطق يمنية هنا أو هناك في سبيل استمرار الهدنة وسلامة منشآت أرامكو وتدفق إمدادات الطاقة، لذا يجارون الانقلابيين الحوثيين ومن ورائهم إيران، للحفاظ على هدنة هشة صممت لمهادنة الخطر الإيراني، وتهدئة تهديداته لممر الملاحة الدولية في البحر الأحمر وباب المندب، في هذه المرحلة الحرجة دوليًا، حيث زادت حاجة الولايات المتحدة وأوروبا لإمدادات الطاقة.
هناك استهجان واسع لفكرة السماح للتصعيد والتحشيد الحوثي بالحركة دون رد، واستمرار تقييد الجيش، استمرار تساهل المجلس الرئاسي واستسلامه للضغط الخارجي والأممي، وتجميده للتحركات العسكرية الضرورية للردع، بات مصدر مشكلة له مع أنصاره، وقد يتحول لأزمة ثقة.
واليمنيون لم ينسوا بعد لعبة خداع مورست في فترة ماضية، تحت غطاء أنشطة إغاثية وتحركات منظمات أممية وظفت لتسهيل خدعة حرب حوثية.. حدث ذلك في الدريهمي في 18 أكتوبر 2019، في ذلك اليوم، وحسب رواية للمتحدث العسكري للقوات المشتركة وضاح الدبيش: “وصلت قافلة إغاثية أممية تابعة لبرنامج الغذاء العالمي، قادمة من صنعاء، غير أنه عند وصول القافلة إلى مناطق سيطرة القوات المشتركة الحكومية في مديرية الدريهمي، قادمة من مناطق المليشيات، رصدت طائرات الاستطلاع قوات عسكرية على متن أكثر من عشر آليات عسكرية، وأكثر من 50 عنصرًا على متن دراجات نارية كانت ترافق القافلة”.
كانت خدعة اكتشفتها قوات اللواء الثالث عمالقة، وأفشلت المخطط الذي كانت المليشيات تعتزم تنفيذه، وتم إيقاف القافلة حتى تنسحب العناصر المتخفية خلفها.
الدبيش عبر يومها عن استغرابه بشأن قبول برنامج الغذاء العالمي إرسال مساعداته من عدن جنوبًا إلى صنعاء شمالًا ثم الحديدة غربًا، استجابة لطلب المليشيات الحوثية، قاطعة آلاف الكيلومترات، بينما المسافة التي تفصل الدريهمي عن عدن لا تتجاوز 5 ساعات.
بتعبير آخر، كان المتحدث العسكري للقوات المشتركة وضاح الدبيش، يشير إلى تورط أممي (برنامج الغذاء العالمي)، في محاولة صناعة الخديعة ونصب فخ تم كشفه.. لاحقًا تم تسليم معظم مناطق الحديدة في صفقة واضحة المعالم جرت عبر انسحاب القوات المشتركة لأكثر من 100 كيلومتر، في ما سميت إعادة التموضع، وهو أمر رفضته القوات التهامية المناهضة للانقلابيين الحوثيين.
في تعز اليوم تنعدم الثقة كليًا بالحوثيين، وينظر إلى تحركاتهم كتحركات شديدة العدائية، وقد باتت الهدنة بالنسبة لتعز مجرد فخ يستدعي الحذر.
وتعز ليست الحديدة من حيث كافة ظروف الصراع وسنوات الحرب وطبيعة القوات، وقد تفاجئ هذه المدينة المحاصرة من يخططون أو يحاولون تكرار سيناريو الحديدة الفخ.

الأكثر قراءة