المشاهد نت

أين أبي؟.. أبناء يبحثون عن آبائهم

معاناة كبيرة يكابدها أهالي المخفيين قسرًا في اليمن - صورة أرشيفية

صنعاء – سامية الأغبري

لعقود من الزمن، يردد أبناء المختفين قسريًا في اليمن هذا السؤال: أين أبي؟ كبر الأبناء والبنات، وصاروا آباءً وأمهات، ولم تأتِ الإجابة، ولم تنته مهمة البحث عن آبائهم.

يتذكر الأبناء الحياة القصيرة التي عاشوها في كنف آبائهم وعلاقتهم بهم، وكيف انقلبت حياتهم رأسًا على عقب بعد أن ذهب آباؤهم دون عودة.

تعرف الاتفاقية الدولية الاختفاء القسري بأنه “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون”.

في انتظار آبائهم

وثقت (الرابطة اليمنية لأسر المخفيين قسريَا) 2000 ضحية من الحالات التي فقط وصلتهم بحسب القاضية هالة القرشي أحد مؤسسي الرابطة وابنة العقيد سلطان القرشي المختفي قسريًا منذ السبعينيات، ووزير التموين والتجارة في عهد الرئيس الحمدي.

لا زالت هالة تتذكر اليوم الأول من فقدان والدها، وتقول: “عندما اختفى أبي كنت في العاشرة، وكانت أمي تحمل في أحشائها أختي آزال؛ جاء أفراد من الأمن إلى بيتنا يوم 20 فبراير 1978، قال أبي لأمي إن محمد خميس (مسؤول مخابرات) استدعاه، ذهب إليه ومن يومها لم نره”.

في مايو من نفس العام، تم تسريب رسالتين للقرشي من معتقله في سجن (حنظل) بصنعاء، وهو عبارة عن زنازين تحت الأرض، رسالة وجهها إلى عائلته يطمئنهم فيها أنه في السجن وعلى قيد الحياة، والأخرى إلى عبدالسلام صبره الذي كان أمين سر لمجلس القيادة في عهد الحمدي، وتقلّد عددًا من المناصب في عهد صالح، وكان القرشي يثق به ويعول عليه في قضيته.

الرائد زهرة

تقول (سميرة) ابنة المختفي قسريًا منذ 11 أكتوبر/ تشرين الأول 1977م علي قناف زهرة: عندما اختفى أبي كنت في الرابعة من عمري، وكان أكبر إخوتي في العاشرة، وأصغرنا عمره أربعة أيام فقط، أتذكر جيدًا يوم اختفائه، يومها استيقظت فجأة في الفجر وخرجت من حجرة النوم، كانت مصابيح البيت كلها مضاءة، وعمتي في بيتنا وأمي تبكي، شعرت بالخوف! ماالذي يحدث ولماذا عمتي هنا في هذا الوقت ما الذي يُبكي أمي؟ سألتهما: أين أبي؟”

تصف سميرة حالهم بعد أن استمرت مدة غياب أبيها، وتقول: “طال غياب أبي، وبدا البيت كئيبًا، أصبح بيتنا مراقبًا وقطع الهاتف لأشهر، كل يوم يأتينا خبر عن مكانه، قيل أنه في سجن القيادة، وقيل في جزيرة كمران، وقيل أن طائرة عسكرية سعودية أخذته، ظلوا يطمئنونا سيعود الخميس القادم، سيعود خلال أسبوع، لكن أبي حتى اليوم لم يعد”.

وتتذكر سميرة يوم أخذتهم جدتهم معها إلى بيت مسئول كبير لتسأل عن ابنها (علي)، ومكثوا ساعات طويلة خارج بيته تحت أشعة الشمس الحارقة، ينتظرون خروجه إليهم، لكن بعد الانتظار الطويل، قيل لهم:”لقد غادر المسؤول المنزل من الباب الآخر”.

لم تيأس الأسرة وماتزال تبحث عنه لكي تعرف ما إذا كان على قيد الحياة أم تمت تصفيته، في24 كانون/يناير الماضي، توفيت والدة سميرة، وهي تنتظر إجابة عن سؤال عمره أكثر من أربعة عقود: “أين زوجي؟”

قبلة أبي الأخيرة

تحتفظ (ندى) الابنة الكبرى للمختفي قسريًا، منذ واحد أربعين سنة، مطهر الإرياني بما تبقى لها من ذكريات أبيها، صور ووثائق وجواز سفر، وتفاصيل سنوات قصيرة من العيش معه، تقول: “كان أبي يرقص ويلعب معي، يعلمني اللغة الإنجليزية، ويساعدني في حل واجباتي المدرسية، بعد عودته من العمل في الثامنة مساء، يأخذني لتناول العشاء في المطعم ثم نذهب إلى السينما، كنت طفلته المدللة”.

كان الإرياني ناشطًا يساريًا، ومنتميًا إلى الحزب الديمقراطي الثوري، قبل اختفائه تعرض للاعتقال عدة مرات، ونصحه أحد أصدقائه بمغادرة صنعاء، غادر إلى الحديدة، وعاش هناك في منزل والد زوجته التي لم تكن تعلم بنشاطه السياسي قبل اعتقاله.

تتحدث ندى عن يوم الاختفاء، وتقول: “كنت في السابعة من عمري، وفي الرابعة من عصر يوم الإثنين 23 أكتوبر/تشرين الأول 1982، كنت في حجر أمي في الصالة، وكانت تمشط لي شعري، خرج أبي متجهًا إلى عمله في وكالات الحسيني للسيارات، لحقت أنا به وطلبت منه مصروفي، قال لي “مصروفك مع أمك “ثم قبلني وغادر”.

تضيف: “الثانية فجرًا أيقظتني أمي لتخبرني أن أبي لم يعد، أكملت نومي، وصحوت في السابعة صباحًا، ذهبت إلى أمي وسألتها هل عاد أبي؟ أجابت بالنفي، شعرت بخوف، فقبل أسبوع من اختفائه قال أبي لجدي:”يا عم أحمد بيتك مراقب”، كان يشعر أنه مراقب، وأكد لنا خالي أن طقمًا عسكريًا ورجالاً بزي مدني ظلوا بالقرب من المنزل لأسبوع كامل”.

بعد أسبوعين من بحثهم المتواصل جاءهم اتصال من أحد مسئولي الحكومة، وقال لهم “مطهر مسجون لدينا”، تواصلت ندى مع الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح لتسأل عن أبيها؛ أجابها: “سجوني خالية”.

عبد الواحد الطويل

لا تختلف معاناة رشاد عن بقية أبناء المفقودين، فقد اختفى والده، عبد الواحد الطويل، من مديرية العدين مع اثنين من مرافقيه في منتصف يونيو 1983 من إحدى النقاط العسكرية أثناء سفرهم إلى المدينة.

كان عمر رشاد حينها بعمر أربع سنوات، توفيت شقيقتهم الكبرى حزنًا على أبيها بعد فترة قصيرة من اختفائه، ووتوفيت والدة رشاد قبل سبع سنوات.

يقول رشاد: “عشنا أيتامًا ينتظرون عودة أبيهم؛ طيلة هذه السنوات لم نيأس مازلنا نبحث ولم نفقد الأمل، كانت شائعات تتسرب أنه سجين هنا في إب، ومرة يقولون أنه معتقل في صنعاء، وأحيانًا يقولون أنه في أحد سجون مدينة حجة؛ أما نحن لم تصلنا أية معلومات مؤكدة حول مكان سجنه ومصيره”.

يضيف: “أنا لا أعلم انتماء أبي، لكني أعلم أنه كان بطلًا ومناضلًا؛ يقولون:”كان ناصريًا”.

إقرأ أيضاً  خلال أبريل.. 370 شخصًا ضحايا الحوادث المرورية

تصفية جزيلان

كان لطف جزيلان مغتربًا في السعودية، ولم يكن له أي نشاط سياسي، اختفى قسريًا منذ 1983 بعد اعتقاله أثناء زيارته لشقيقه الذي كان معتقلاً في الأمن الوطني بمدينة إب.

يقول أحمد: “كنت معتقلًا في الأمن الوطني الذي سمي بعد الوحدة (الأمن السياسي)، جاء أخي لطف لزيارتي، فألقي القبض عليه، وأدخل السجن، أمضينا معًا ليلة واحدة، وحين علموا أنه شقيقي، اقتادوه إلى زنزانة أخرى، بقي في سجن الأمن الوطني مايقارب عشرين يومًا، ثم نُقل إلى معسكر قاع الجامع، مايسمى اليوم اللواء 35″.

يضيف: “تسريبات من قبل أصدقاء كانوا ضمن قوات هذا اللواء تقول إن شقيقي لطف تمت تصفيته في المعسكر”.

إلى اليوم، لاتعلم عائلة جزيلان مصيره وهل فعلًا تم تصفيته في المعسكر أم مازال في أحد السجون السرية.

خيبات أمل

في العام الفائت، ظهر رجل طاعن في السن، واعتقد أحد الأشخاص أنه أحد أقاربه المختفين منذ 1982، وكتب ذلك الشخص منشورًا على فيس بوك يبشر بعودة عبده قاسم الجماعي المختفي قسريًا مع أربعة من أقربائه من مدينة إب، لكن خيبة أملهم كانت كبيرة حين اتضح لهم بأن ذلك الرجل الطاعن لم يكن قريبهم، بل كان شخصًا آخر.

في 2013، تداولت وسائل إعلام محلية وعربية خبرًا يفيد بالعثور على ثلاثة من ناشطي اليسار المعتقلين منذ أكثر من ثلاثة عقود من قبل نظام صالح وأفاد الخبر آنذاك أن الثلاثة الأشخاص يعيشون في دار للعجزة بمدينة الحديدة.

فرحت الأسر وتوافدت إلى دار العجزة، وزعم ناشطون حينها العثور على القياديين اليساريين علي خان ومطهر الإرياني اللذين تم اعتقالهما في عهد نظام صالح، وثالثهما عبد العزيز عون، الذي اعتقل عام 1974 في عهد الحمدي.

لم تستطع عائلات الضحايا التأكد من هوية القابعين في دار العجزة، وما إذا كان هؤلاء فعلاً هم أحبتهم المفقودين، مات الشخص الذي كان يُعتقد أنه “علي خان”، وأظهرت فحوصات (DNA) أن الشخص الآخر ليس مطهر الإرياني، ولم تستطع عائلة عبد العزيز عون التأكد من هوية الشخص الثالث.

تقول ندى: كنت فرحة بعودة أبي وأني أخيرًا سأناديه “أبي”، الكلمة التي حرمت منها طويلًا أخذته معي إلى البيت من إحدى المصحات في الحديدة، ولكن فرحتنا لم تدم، لم يكن أبي، لقد كان شخصًا آخر، سجينًا آخر، أب لآخرين، هو أيضًا من المختفين قسريًا، اسمه (طه الجعفري)، حزنت كثيرًا بعد أن ظننت أن باب الفرح أخيرًا فتح لنا؛ ظل في بيتنا عامًا وأربعة أشهر، وبعد ظهور آخر نتيجة للفحص، دخلت إلى غرفته وناديته وكأني أقولها للمرة الأخيرة: أباه! قال ماذا؟ أجبته: لست أبي وبكيت كثيرًا، سألته هل أعيدك إلى المصحة؟ قال: لا.. أريد البقاء هنا”.

تضيف: “وعدته أنني إذا لم أجد عائلته سيبقى في بيتي نشرت صورته على مواقع التواصل الاجتماعي وسألت إن كان أحد يعرفه، وصلتني رسالة من مقيم في السعودية، يؤكد أنه يعرفه وهو مفقود منذ أربعين عاما”.

تتابع ندى: “جاءت عائلته وأخذته كنا جميعًا نبكي رجالاً ونساءً، هم يبكون فرحًا بعودة أبيهم، ونحن نبكي حزنًا لأنهم سيأخذونه منا، تعودت على وجوده في البيت ومناداته: أبي”.

الضحايا في الجنوب

خلفت أحداث يناير الدموية في مدينة عدن عام 1986 آلاف الضحايا من قيادات الدولة وأعضاء الحزب الإشتراكي بين قتلى ومختفين قسريًا، أبرزهم الرئيس عبد الفتاح اسماعيل، تقول روايات إن إسماعيل اختطف، وتمت تصفيته لاحقًا لكن لم يعثر على جثته حتى يومنا هذا.

بعد حرب صيف 94، واجتياح قوات نظام علي عبدالله صالح للجنوب، اختفى قسريًا عدد من أعضاء و قيادات الحزب الاشتراكي ومسئولون في الدولة، بينهم محمد علي عماية الذي كان نائب وزير الخارجية في جنوب اليمن قبل الوحدة، وصالح منصر السييلي الذي شغل حينها منصب محافظ عدن وكان نائبًا لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية في جنوب اليمن قبل الوحدة، في 2013، نشر ( تكتل أبناء عدن) أسماء العشرات من الضحايا في مراحل مختلفة من الصراع في الجنوب منذ الستينيات وحتى الثمانينيات، أغلبهم من المدنيين.

مبادرات مجتمعية للبحث عن المختفين

يوضح أحمد طه المعبقي، المسئول التنفيذي للجنة متابعة المخفيين قسرًا التي تأسست عام 2017 في مدينة تعز، أن أكثر حالات الاختفاء القسري حدثت مابين 2015- 2017، حيث رصدت اللجنة (84) حالة اختفاء قسري، لافتًا إلى أنه لاتوجد حتى الآن إحصائية دقيقة، ويتوقع أن يكون عدد المختفين أكبر بكثير مما رصدته اللجنة.

يشير المعبقي إلى أن تأسيس اللجنة جاء كمبادرة مجتمعية من أجل حماية المدنيين من جرائم الاختفاء القسري، بعد تخلي الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني عن القيام بواجبها الأخلاقي والإنساني تجاه هذه القضية.

أمة السلام الحاج رئيسة رابطة أمهات المختطفين تقول: “ما تم توثيقه حول عدد المختفين في سجون الحوثي منذ 2014 – 2016 سبعة وتسعون مختفيًا قسريًا، وثلاثة وخمسون في سجون المجلس الإنتقالي”.

تؤكد الحاج نجاح الرابطة في الوصول إلى مئات من المختفين قسريًا، ومعرفة مصيرهم وأماكن سجنهم من خلال جلسات استماع لمعتقلين مفرج عنهم، وثقت الرابطة شهاداتهم وأدلوا بمعلومات حول من كان معهم في السجون، وأشارت إلى أنه تم إطلااق سراح تسعمائة وخمسين مختطفًا ومختفيًا قسريًا.

تضيف الحاج: “الرابطة لم توثق حالات اختفاء نساء، في مناطق حكومة الشرعية ولكن هناك تحالفات نسوية تحدثت عن نساء مختفيات في سجون الحوثي”، وترجع الحاج سبب عدم توثيق حالات اعتقال النساء إلى رفض الأهالي الإبلاغ عن اختفاء أو اعتقال بناتهم بسبب ثقافة العيب.

يقول المعبقي إن عشرات من المختفين قسريًا تم الإفراج عنهم على ضوء الكشوفات والبلاغات التي تقدمت بها لجنة المخفيين إلى الجهات الرسمية، لافتًا إلى أنه لا يمكن تحقيق مصالحة جادة دون معالجة هذا الملف، وكشف مصير المختفين وإطلاق سراحهم.

مقالات مشابهة