المشاهد نت

تعز: الألغام تتخطف مربي الماشية

حياة الرعاة ومواشيهم مهددة نتيجة تلوث المراعي بالألغام

تعز – إيناس الحميري


حبيسة المنزل، تقضي فاطمةُ عامها الرابع في مديرية مقبنة، جنوب غرب تعز، متوسدة معاناتها المريرة، منذ إصابتها بلغم من مخلفات الحوثيين في أحد المراعي بمديرية جبل حبشي غربي تعز. تسبب في بتر قدمها اليسرى، أثناء ما كانت ترعى قطيعًا من الماشية، مؤلفًا من 170 رأسًا من الغنم اتخذت منها أسرة فاطمة مصدرًا رئيسيًا للعيش، وظلت تعيش متنقلةً مع القطيع في ترحال مستمرٍّ بحثًا عن المراعي الخصبة في الأرياف الغربية لتعز.
كانت فاطمة الراعي (29 عامًا)، التي اكتسبت لقبها من مهنتها في رعي الماشية، ترافق والدها وشقيقيها في رعي القطيع بمنطقة القوز، إحدى المناطق الملوّثة بألغام الحوثيين، إلا أن حياتها انقلبت رأسًا على عقب بمجرد انفجار لغم فردي بها؛ واستغرق إسعافها إلى مستشفى الروضة في مدينة تعز أربع ساعات كادت أن تلفظ خلالها أنفاسها الأخيرة لولا العناية الإلهية التي أنقذتها من نزيف حاد كان قد أدخلها في غيبوبة قبل ساعةٍ من وصولها المستشفى.

شراك الألغام

تقول فاطمة لـ”المشاهد”، إنها تعاني أشد المعاناة في منزلها، وأن رحلة علاجها إلى مصر للحصول على طرفٍ صناعي لم تجدِ نفعًا؛ مضيفةً: “كنت أتنقل في أربع مديريات خلال شهر، نبحث عن الرعي، ونعيش في كل منطقة ننزل فيها، هذه حياتنا، ما نرجع إلى بيتنا إلا مع انتهاء موسم الأمطار، والآن أشعر كأني في سجن، وأني أعيش كل حياتي طريحة الفراش”.
وتشير إلى أنهم في الماضي كانوا يقصدون كل المناطق والمراعي الخصبة دون خوف، إلا أن أشقاءها وأقاربها الذين يعملون في نفس المهنة (تربية الماشية وبيع الأجبان)، بدأوا يأخذون حذرهم منذ وقوعها في شراك الألغام، حتى لا تقع ضحية أخرى؛ ما حدَّ من أنشطة الرعي خشية المخاطر، الأمر الذي انعكس على تخفيض أعداد القطيع بنحو النصف، لتسهيل احتوائه في المناطق الخالية من الألغام، وعدم المخاطرة بأرواح الرعاة وحياة الأغنام.
تبدو أوجه التشابه قريبةً بين مأساة فاطمة، ومصير جواد محمد (17 عامًا)، الذي رأف به القدر من موت محتوم، إذ سلم بأعجوبة من انفجار لغمٍ زرعه الحوثيون بمديرية مقبنة؛ عندما كان وعائلته يغادرون المنطقة نازحين تحت وطأة القصف واشتداد المواجهات العسكرية، باتجاه مديرية موزع، ومعهم قطيع من الأغنام بواقع 42 رأسًا، لم يصل منها إلى موزع سوى 12 رأسًا فقط.


نفوق كامل

يقول والد جواد إن لغمًا فرديًا انفجر بالقطيع، وتسبب بنفوق مجموعة من الأغنام، وبعض الأغنام فرت هاربة من هول الانفجار الذي تسبب بإصابة نجله جواد بشظايا في جسده؛ مضيفًا: “سلم جواد بأعجوبة، كان قريبًا من موقع انفجار اللغم، إلا أن سير الأغنام على شكل مجموعة متراصة حدّ من انتشار الشظايا التي قتلت أكثر من 20 رأسًا، لذلك كانت إصابته طفيفة وغير مميتة”.
حاليًا، لم يعد لدى جواد وعائلته حتى رأس واحد من الماشية، إذ تسبب الجفاف وقلة الكلأ وانتشار الأمراض بنفوق باقي الأغنام التي وصلت سالمة برفقتهم إلى موطن نزوحهم في موزع، عام 2017، وعكف الأب ونجله على رعيها وتربيتها في تلك المناطق، على أمل تعويض ما خسروه بانفجار اللغم؛ لكن المرض وقلة الكلأ أوديا بحياة ما تبقى من القطيع الصغير الذي كان مصدر العيش الوحيد للعائلة.
بحسب تقرير صادر عن المرصد اليمني للألغام، فإن 60 رأسًا من المواشي والإبل نفقت إثر انفجار الألغام ومخلفات الحرب، منذ بدء سريان الهدنة في الثاني من أبريل الماضي، وحتى انتهائها في الثاني من أكتوبر الفائت؛ غير أنه لا توجد إحصائية شاملة لأعداد الضحايا في صفوف مربيي الماشية، أو القطعان النافقة.

إقرأ أيضاً  عدن تحتفي بيوم المسرح العالمي


الموت في المراعٍ

ويقول فارس الحميري، المدير التنفيذي للمرصد اليمني للألغام، متحدثًا لـ”المشاهد”، إن الحوثيين زرعوا الألغام بشكل مكثف في مناطق واسعة من اليمن، عمومًا، وفي محافظة تعز تحديدًا، والواضح أن هذه الزراعة لم تكن لأغراض عسكرية بحتة، بل كانت استهدافًا للحياة في كل المناطق التي تتفلت من قبضة الجماعة.”

ويشير الحميري إلى أن “المناطق الريفية التي مر منها الحوثيون في تعز، جميعها مناطق ملوثة بالألغام، وتتخطف هذه الألغام والعبوات المموهة باستمرار أرواح المدنيين من النساء والأطفال ورعاة الماشية والفلاحين”.

ويلفت إلى أن مناطق في تخوم القرى السكنية والمزارع ومحيط المناطق الزراعية ومناطق جبلية في تعز، والتي كان يقصدها رعاة الماشية، تحولت إلى مراعٍ للموت، “حيث رصدنا ووثقنا سقوط عشرات الضحايا والقصص المأساوية التي لحقت بممارسي مهنة الرعي، ونفوق المئات من رؤوس الماشية في ريف تعز”.

ويتابع: “إلى جانب الخسائر في الأرواح، هناك خسائر مادية تمثلت في نفوق رؤوس الماشية، وتسبب ذلك في إنهاك عشرات الأسر التي تعتمد بشكل أساسي على تربية الثروة الحيوانية كمصدر دخل رئيس”.

وأنهى الحميري حديثه مؤكدًا أن “مهنة الرعي في ريف تعز تواجه حاليًا مخاطر كبيرة، واستمرار معاناة رعاة الماشية نتيجة التلوث الحاصل وعدم تطهير المناطق التي يقصدونها، يمكن أن يدفع الكثير منهم إلى التخلي عن هذه المهنة التي توارثوها عن الآباء والأجداد، وهي مهنة قديمة وتقليد يمتاز به المجتمع التعزي”.

في أغسطس الماضي، توفي الطفل محمد أحمد همام (13 سنة)، متأثرًا بإصابة تعرض لها في نفس اليوم، جراء انفجار لغم من مخلفات الحوثيين، وهو يرعى أغنامه جوار منزلهم في منطقة “عشملة” بمديرية مقبنة. وفي مايو الماضي قتل الراعي سالم محمد بخيت بانفجار لغم شرق المخا، ونجا قاسم صالح الشيباني من الحادث بأعجوبة، وفي الشهر الذي تلاه، يونيو، تسبب انفجار لغم في بتر القدم اليسرى للطفل محمد غالب (15 عامًا) أثناء رعيه الأغنام في مديرية جبل حبشي.

وحتى مارس 2021، كان العدد الإجمالي لضحايا الألغام في محافظة تعز بلغ أكثر من 3,263 مدنيًا سقطوا بين قتيل وجريح في المحافظة منذ العام 2015، بحسب المرصد اليمني للألغام.

مقالات مشابهة