المشاهد نت

عن المدينة الموغلة في الذاكرة

منظر عام لمدينة تعز - عدسة فراس محمد

القاهرة – محمد جازم :

حنين إلى الأبد

تصاب المدن الهزيلة بأمراض عصيّة؛ كالجمرة الخبيثة، وكورونا، وإنفلونزا الطيور. والخنازير؛ والمدن الهزيلة جدًا؛ لا تغادر جروحها المصابة، بسرطان الدكتاتوريات.. تنطرح أرضًا من الأعراض الفتاكة. وأمّا تعز فإنها عالية الهمة، لها إصرار فلاحة، وعزيمة بنّاء، وحنين عاشقة، وعزيمة ثائر؛ ضوءها ما بعده ضوء، وحلمها ما بعده حلم، لذا يلقبونها بـ”الحالمة”. ترتفع أناشيدها فوق كل الأناشيد:
“املؤوا الدنيا ابتساما وارفعوا للشمس هاما”

أتخيلني على ربوة “الأخوة”، أتخيل هاشم علي وهو يعيد تلوين قلعة القاهرة، ثم أدندن بأغاني أيوب الثورية كأنني أنتقم من زوامل الحرب العبثية. يتصاعد الغناء في أعماقي إلى أن يصبح صمتًا وتأملًا ومونولوجًا داخلي


سيبدو الأمر هكذا دائمًا كما لو أن ما قاله الفضول وما غناه أيوب طارش واقع.
هكذا أتخيلني على ربوة “الأخوة”، أتخيل هاشم علي وهو يعيد تلوين قلعة القاهرة، ثم أدندن بأغاني أيوب الثورية كأنني أنتقم من زوامل الحرب العبثية. يتصاعد الغناء في أعماقي إلى أن يصبح صمتًا وتأملًا ومونولوجًا داخلي:
“كنت أجيئك فجراً يا صديقتي لأقف هنا عليك يا ربوتي الأثيرة لكي أذكّر الأحياء والشوارع والأنسام والأصوات بأخوّتي معك؛ لأقرأ ملامحك الشبيهة بلوحة نادرة: مدينة لها رأس جبلي مهول، يرتفع فوق سطح البحر بألفي متر يسمى “صبر”، ولها أنف وردي، تضطجع عليه قلعة قديمة بقدم التاريخ، تسمى “القاهرة”، أما ضحكتك فإنها هذا الاتساع الرحب؛ الذي تشع منه المدينة القديمة ببياضها العتيق.. ها أنا أقف على علو يقابل القلعة، والجبل، والمدينة بمكوناتها التي تمتد إلى مناطق شاسعة شرقًا، وغربًا، وشمالًا، وجنوبًا. وأقول في نفسي: “إذا أراد المسافر أن يتجه من صنعاء إلى عدن، فإن عليه أولًا المرور بتعز؛ مدينة السلام. وإذا أراد الاتجاه من عدن إلى صنعاء؛ فإن عليه المرور بتعز، لأن النور المضيء يتحرك في هذه البقعة.. نور المعرفة والمحبة والأمان.. حاول بعض المسافرين تغيير قنوات السير، لكنهم فشلوا، اصطدموا بكهوف جبلية موحشة وانسدادات بشرية هنا وهناك؛ ثم عادوا إلى طريقك يا تعزي.. إنها أسهل الطرق للوصول إلى الله. هنا ترتصّ حكايات المدن الموغلة في القدم. لك الآن يا صديقتي أن تكوني بطلة فيلم الأفلام. بطلة مسرحية المسرحيات في هذا القرن الذي دشن عقوده الأولى بإسدال ستارة الصمت. وحين يصفق الجمهور لا تنحني، لأن قامتك المديدة هي “موضة الروح الجديدة”.


قبل أن تحل الكارثة كان كل شيء يمضي بسلام:


ها أنت تدخل قبة التيه، تمارس هواياتك في النظر إلى الذرى العالية من صبر.. إلى تلك الضفاف القريبة من الله، وهداياه المتعلقة بضرورات الحياة.. هناك حيث حدائق صبر البديعة تتدلى كما لو أنها أعذاق نخل.. كل شيء أخضر في المدينة يأتي من هناك.. من تلك البساتين الغارقة بألوانها الفسيفسائية؛ حيث شلالات النور المتعاكسة على أشجار البرتقال، والرمان، والخوخ، والسفرجل، والدراق، والبن اليمني الشهير بألوانه القرمزية البديعة.. حيث أيوب يرش المدينة بصوته الأجش: “والفرسك اخضر وحالي.. فراسكك واصبر ما تسبب ضرس”.
ترى لماذا يدمرون شوقها؟ ألأنها اختارت أحد الأيام ليكون ثورة للمضيئين وعيدًا للحالمين؟! ألم يعلموا أنها كانت، ومازالت محط هوى العمال، والعلماء والمفكرين، والصوفيين، والساسة، والمشردين، وهي هدف الرحالة وقبلتهم؟!
يخفق القلب كثيرًا عند مشاهدة هذه الأمكنة، وكلما انطرح الضوء المخملي -غبشًا- على هذه القداسة المدهشة، طقطق القلب واضطرب، وراح يحاول الإفلات من الجسد، ليحلق هناك… وكلما اشتد الوجيب؛ قامت المدفعية الضارية -في هذه الآونة- لتبتهج، وراح الرصاص الحقود يئزّ على رؤوس الأشهاد؛ لكن المدينة الشبيهة بلوحة، تقاوم.. تلك المدينة المسالة التي أدهشت الرحالة نيبور، فخلدها بفرشاته الأنيقة، قبل قرون من اليوم.
وكلما انفتحت شهية المستهترين بالأناشيد والأحلام والفرح، ذهبت الذاكرة تتلمس وهاد العمر الجميل في الأمس البعيد والقريب.. ها هي ذي الشمس تحتفل بوضع أولى خطواتها على قلعة القاهرة. يشدك منظرها الشبيه ببلورة تجلس على أكمام وردة بنفسجية مكللة بسلاف الضوء الربيعي الأنيق. يشدك المنظر تمامًا كأنك تتخيل فنان تعز الشهير “هاشم علي” وهو يضع الضربات الأخيرة للوحة فنية

إقرأ أيضاً  تعز : الابتهاج بالعيد رغم الحرب والحصار

ترى العالم لأول مرة.. تقول: ما الذي فعله التتار والبرابرة بمدينة هاشم علي؟


وفي المقابل، لكأنّ وحشًا أسطوريًا يقوم من قبره، ليتلذذ بالاستماع إلى أنين الجرحى، ورثائيات الثكالى، وبكائيات الأطفال على توابيت، وقبور أمهاتهم، وآبائهم، كأنه دائخ الآن في لذاته يتشمم روائح الأكفان، وعبق ثلاجات الموتى، ويبتهج كثيرًا لزعيق سيارات الإسعاف.
اليوم، وأنت تمتلك ذلك الحنين الأبدي إلى تلك المدينة، ها هي تتداخل مع الأحلام، تشدك الربوة، تنظر إلى شيء طارئ في اللوحة. إنه الموت الذي يريد أن يسيطر على المدينة بواسطة أشباح تحاول أحيانًا استغلال خسوف الشمس أو كسوف القمر، ولكن شيئًا من ذلك لن يحدث، لأن الأموات في تعز مازالوا أحياء، فإذا دبت قدماك في جامع الأشرفية، تندهش لرؤية الرسوم النباتية التي تغطي الواجهات، بخاصة إذا عرفت أن عمر هذه الإبداعات يزيد عن 800 عام، وكلما مر الزمن زاد بريقها اتقادًا.
تستطيع أن تشاهد من على هذه الربوة، كل الأمكنة والأروقة والباحات ومداخل الحارات والشوارع وأسواق الخضار، مثلما تستطيع أن تلتقط أصوات باعة الخضار والفواكه، وأن تحصي عدد السيارات المقبلة والمدبرة.
شرعت أمارس هوايتي في النظر إلى الذرى العالية من صبر.. إلى تلك الضفاف القريبة من الله، وهداياه المتعلقة بضرورات الحياة.. هناك حيث حدائق صبر المعلقة.
كل شيء أخضر في المدينة يأتي من هناك، من تلك البساتين الغارقة بألوانها الفسيفسائية، حيث شلالات النور المتعاكسة على أشجار البرتقال والرمان والخوخ والسفرجل والدراق والبن اليمني الشهير بألوانه القرمزية البديعة.. المحال التجارية تبدأ في فتح أذرعها أسوة بباب موسى والباب الكبير التاريخيين، وأول هذه الأبواب أبواب الأكشاك والمكتبات، ثم أبواب منازل المعلمين والأساتذة وطلاب الجامعات والمدارس، الذين يقبلون على الأكشاك قبل توجههم إلى القاعات.. أحيانًا يمر الوقت وهم هناك يستقون معارف جديدة.. يعتقد المتأمل أن شيئًا ما سيحدث في هذه المدينة.. شيئًا ما مغايرًا، كأن يهجرون المدارس، ويبقون في المكتبات، وتحت ظلال الأكشاك.
يحاول الإنسان دائمًا الإمساك بالزمن، لكنه لا يدري كيف يمكنه فعل ذلك. أحيانًا يذهب الناس إلى بناء تماثيل عملاقة لتخليد رموزهم العلمية والثقافية والوطنية، وأحيانًا ربما عمدوا إلى تحويل أصفيائهم إلى أساطير تروى، وذلك في محاولة للإبقاء على شيء ما يقاوم هذا اللغز الداعي إلى الفناء. ويتضح ذلك في محاولتهم لإضفاء الكثير من الأوصاف والألقاب على شخصيات أحبوها، فتحولت مع الوقت إلى أساطير تدور حولها الحكايات؛ لكنها في أعمق تجلياتها تشير إلى المقاومة.. تعز تقاوم القبح دائمًا، وسوف تنتصر لأن الله مع الحياة ومع العقل والحضارة.
ذهب الفراعنة قديمًا، كما نعرف، إلى بناء قبور هرمية عملاقة، في محاولة لمقاومة اللغز، وذهبت أسطورة جلجامش إلى البحث عن زهرة الخلود التي تجشم عناء البحث عنها أنكيدو، وعندما جاءت الأديان بحثت عن شيء آخر له علاقة بالروح. وما أود قوله هنا هو أن في مدينة تعز الكثير من الآثار التي بالإمكان اقتفاء أثرها، ولكن هناك ما لا يعود إلى تاريخ الدولة الرسولية، فلم نذهب إليه، ومن ذلك قبة الحسينية وقبة عبدالهادي السودي وجامع الجند ومقام وضريح القطب العالي ابن علوان، وغير ذلك مما لم نحسن حتى الآن التعامل معه وطرح الأسئلة عنه.
تنظر إلى تعز من الأعلى ومن الأسفل.. تترصد ضحكاتها البريئة.. تلاحق طيف شروقها والغروب، ولا تملك إلا أن تحس بأنها تنشع من بين ضلوعك.. تنبجس من بين مسامات جلدك.. تتفجر في أروقة القلب مثل لحظة وعي مشبعة بالأمل.. تقول وأنت تتخيل طرق ولادتها في الزمن الغابر: وجدتها! إنها لحظة وعي حقًا.. إنها تشبه تلك اللحظة التي اكتشف فيها نيوتن جاذبية الأرض.

مقالات مشابهة