المشاهد نت

العنف التوليدي بحضرموت … معاناة النساء المستمرة

حضرموت – سلوى بايحيى :

“ما زلتُ أعاني من فوبيا المستشفيات منذُ ست سنوات، ولا أحب الحديث عما حصل لي، وأدعو الله أن لا أنجب مرة أخرى أبدا”. هكذا تعبّر الشابة “مريم عمر” التي لم تتجاوز العشرين عاما حول معاناة ولادتها وقصتها مع العنف التوليدي المنهِك الذي عانت منه وتسبّب لها بأزمة نفسية وجسدية وخسائر مادية مؤلمة منذ 6 سنوات.

مريم إحدى ضحايا العنف التوليدي من النساء في محافظة حضرموت شرقي اليمن، وهو ما تعاني منه كثير من نساء اليمن بسبب تردي الخدمات الصحية وضعف الرقابة على العاملين والمنشآت الصحية وضعف تطبيق القوانين التي تقوم على إنهاء هذا السلوك الذي تتعرض له المرأة أثناء الولادة، وقد عرفت منظمة “لامازا” الدولية (Lamaze) بأن عنف التوليد هو كل إساءة أو اعتداء جسدي أو جنسي أو لفظي أو التنمر أو الإكراه والإذلال والاعتداء الذي يحدث للنساء أثناء عملية الولادة من الطاقم الطبي، بما في ذلك الممرضات والأطباء والقابلات، ويشمل تعرض المرأة أثناء المخاض أو الولادة لسوء المعاملة وعدم احترام حقوقها، بما في ذلك إجبارها على اتخاذ إجراءات ضد إرادتها على أيدي العاملين في المجال الطبي.

أربع من كل خمس نساء تعرضن للعنف التوليدي ، تشير نتائج الاستبيان الإلكتروني الذي تمت تعبئته بأن 4 من كل 5 نساء تعرضن للعنف التوليدي في محافظة حضرموت الساحل والوادي والمناطق الشرقية.

أوجاع مضاعفة

تروي مريم عمر (اسم مستعار) البالغة من العمر (27 عاما)، أنها منذ الشهر الخامس أخبرتها الطبيبة المشرفة على حالتها بأن الجنينمِقعدي (وضعية القدمين بالأسفل والرأس بالأعلى) وأن ولادتها تتطلب عملية قيصرية. تحكي مريم: “في شهر فبراير / شباط 2015، دخلتُ أحد المستشفيات الحكومية، وكان عمري حينها 21 عاما. أخبرتني القابلة بأنها ستقوم بتوليدي ولادة طبيعية ولا حاجة للقيصرية. مرّت 6 ساعات وأنا أحاول الدفع للولادة الطبيعية بكل ما أوتيت من قوة، ولكن هذا الجهد كان هباء منثورا. كانت أطول ست ساعات مرت عليّ بعمري. كان لطف الله حاضرا”.

المأزق المميت!!

تُواصل مريم رواية قصتها المؤلمة: “قاموا بقصّ (العجان)، وهي المنطقة الواقعة بين المهبل وفتحة الشرج، من دون إبلاغي، ولم يُفد ذلك بشيء. لم يظهر من جنيني سوى أصابع رجله، حينها كان الوضع يشبه المأزق المُميت، مرّ وقت طويل وقواي خارت وروحي مرهقة. كنتُ أرى الحيرة والخوف في وجوههم. قامت القابلة باستدعاء الطبيبة التي حاولت طويلا بلا فائدة!! قررت لي عملية قيصرية صارخة: (سيموت الجنين)، حُوّلت سريعا، ورفضت أن أُنقل بواسطة كرسي متحرّك للطابق الثاني لغرفة العمليات، وكنتُ أمشي ورجل جنيني متدلية مني. خفت أن أفقده وأفقد حياتي. حملني والدي وزوجي على أكتافهم، وحين كانت تأتيني آلام المخاض العسير، كنت أفقد وعيي مرارا وأسقط أرضا.

العنف التوليدي بحضرموت ... معاناة النساء المستمرة

بعد الولادة عانيتُ من احتباس البول 21 يوما كاملة، وكنت أتجرّع أوجاع مضاعفة من جراح الخياطة الناتجة عن قص منطقة العجان وخياطة جراح القيصرية وألم احتباس البول. كنت أوصي أهلي وزوجي بطفلي. عدتُ إلى الدكتورة التي ولدتني حتى تحاول الإجابة. لم تتعاطف معي وقالت بغضب: (احتباس بالبول! رُوحوا اختصاصي مسالك بولية. لا تجيبوها عندي)، وذهبتُ أجرّ أوجاعا لا يعلم بها سوى الله. أخبرني اختصاصي المسالك البولية أن احتباس البول سببه وجود قطعة شاش طبي نُسيت داخلي”.

طفولة منهكة

تستمر مريم في الحديث: “طفلي أيضا عانى من طول فترة المخاض والدفع الإجباري. نقص لديه الاكسجين وابتلع مياها ملوثة مِن رحمي. رجله التي تدلت مني كانت مزرقة سوداء. خضع لجلسات طويلة في العلاج الطبيعي والتدليك”. تضيف مريم: “تقدّم زوجي بشكوى لمدير المستشفى، ولكنه أخبره بأن هذه الطبيبة ممتازة وأني أول حالة من هذا النوع وأنه لا يستطيع الاستغناء عنها في القسم وكان يردد: (طفلك وزوجتك بخير، الحمد لله كلاهما على قيد الحياة)”.

الطبيبة هناء بَكور وهي اختصاصية أمراض نساء وتوليد في مدينة المكلا تشدّد على أن الطفل المِقعدي له شروط معينة للسماح بالولادة الطبيعية، ويجب أن تتم على يد طبيب متمرس، ويجب أن يقرّر ذلك طبيب مختص، لا قابلة. ومن المفترض أن تُحوَّل إلى غرفة العمليات فورا حتى من دون المرور إلى طوارئ الولادة، وتضيف الطبيبة هناء: “دائما في حالة الجنين المقعدي تظلّ الولادة القيصرية آمن للحفاظ على الأم وجنينها”.

معاناة لا تنتهي

“ما زلتُ أعاني من تبعات انسداد مجرى البول، مشاكل صحية في الكلى والتهابات المسالك البولية. خسرَ زوجي ما يقارب 5 مليون ريال يمني”، تقول مريم. وعن الأثر النفسي الذي وقع عليها من هذه التجربة، تقول: “لم أكن أطيق حمل طفلي. كرهته جدا. كان اكتئابا حادا، ولم أشعر بنفسي، ودائما ما كنت أمرض بسبب أو من دون سبب، وإلى الآن ما زلت أعاني من فوبيا المستشفيات وفوبيا الإبر، وتصيبني نوبات هلع، وعانيت من مشاكل في العلاقة الجنسية من رفض العلاقة إلى تشنجات المهبل سبّبت لي انفصالا عاطفيا بيني وبين زوجي، وأكره فكرة الحمل والولادة”.

تُسمى حالة الخوف هذه لدى علماء النفس “التوكوفوبيا”، وهي تؤدي بالنساء إلى تجنب الحمل بكل الطرق.

عودة الاكتئاب وتكرار تجربة العنف التوليدي مرة أخرى

تواصل مريم رواية معاناتها وتعرضها للمرة الثانية لعنف توليدي آخر: “بعد ثلاث سنوات، حملت للمرة الثانية. عادت إليّ حالة الاكتئاب، وفكرة الانتحار تراودني كثيرا، وكنتُ أتصل يوميا بوالدتي أستشيرها في إجهاض الحمل وأدخل في نوبة بكاء هستيري”، وتضيف مريم: “أصبحتُ مجنونة حرفيا، ست سنوات مرت ولم يمحُ أي شيء هذا الوجع أبدا. في حملي الثاني، تعرّضت أيضا للعنف التوليدي، ولكن من ممرضة هذه المرة. أنجبت طفلي الثاني قيصريا في مستشفى حكومي أيضا. كنت أعاودهم من أجل تصفية جراح القيصرية. قامت الممرضة بشد خيط العملية. أخبرتها أنه مرَ على عمليتي القيصرية أربعة أيام فقط. تفاجأت الممرضة. بعدها، هاتفت طبيبتي التي قامت بتوليدي قيصريا، فجن جنونها: من سمح للممرضة بسحب الخيط، وبأنها ترفض رفضا قاطعا التعامل مع تلك المستشفى لأنهم مهملون، ولكن احتراما لظروفي المادية، قامت بإجراء العملية هناك”، وتكمل مريم: “أخبرتني الطبيبة أني لا بد أن أستلقي على ظهري مدة شهرين كاملة وأن لا أتحرك أبدا حتى طفلي كنتُ أرضعه مستلقية على ظهري، لم أكن أذهب للحمام. كنت أستخدم حفاظات كبار السن. أُصبت بجراح الفراش وكانت أياما كئيبة حزينة. أتمنى أن لا أحمل مرة أخرى أبدا، قامت هذه الطبيبة بتقديم شكوى بالممرضة. تعهد مدير المستشفى بفصلها، ولا أعلم هل فُصلت أم لا”.

تشدّد القابلة أزهار مُحسن (30 عاما) التي تعمل في القبالة منذ 13 عاما قائلة: “هناك عنف توليدي كبير يمارس من الطبيبات وأيضا طاقم التمريض أكثر منه من القابلة نفسها”.

تُشير نتيجة الاستبيان الإلكتروني الذي نُشر إلى أن 34,2% امرأة ممن قمن بتعبئة الاستبيان تعرضن للعنف التوليدي على يد ممرضة، بينما 31,6% تعرضن للعنف التوليدي على يد قابلة، وأنّ 32,9% تعرضن للعنف التوليدي على يد طبيبة بينما 1,3% تعرضن للعنف التوليدي على يد قابلة منزلية (داية).

سيناريو الشاش المنسي

تحكي سارة محسن (25 عاما) من مديرية مدينة المكلا مأساتها، فتقول: “في شهر يناير / كانون الثاني 2015، دخلت إحدى المستشفيات الحكومية بمدينة المكلا للولادة الثالثة لها بعد خروجي من المستشفى. كنتُ أجد رائحة كريهة وأعاني من تقطع البول، تحسست شيئا سيخرج مني. وجدت أنه طرف قطعة شاش طبي بدأ بالتعفن داخلي سحبتها خارجا وأنا أعتقد أنها الوحيدة، ثم ما لبثت قليلا حتى وجدتها ثلاث قطع شاش طبي”، وتضيف: “هذا الشيء الملوث كان بجسمي أياما كاملة وقد بدأ بالتحلل، والحمد الله لم تحصل لي مضاعفات أكثر، وتؤكد أنها لم تقم بتقديم أي شكوى حول ما حصل لها على الإطلاق بقولها: لا أريد قطع رزق أحدهم”.

غياب الشكوى

خلال إعدادي لهذا التحقيق ومن خلال استماعي لعدد كبير من الحالات، وجدت أن نسبة كبيرة من النساء اللاتي تعرضن للعنف التوليدي ومضاعفاته يعتقدن أن ما تعرضن له قضاء وقدر، ولا يرغبن في افتعال المشكلات والشكاوى، وغالبا ما تجهل أنه من حقها أن تقدم شكوى، بينما المشكلة الأكبر تكمن في أنهن لا يعلمن أين يتوجهن بالشكوى.

تشير الأستاذة علياء الحامد، مديرة الشؤون القانونية في اتحاد نساء اليمن فرع محافظة حضرموت، وهو الاتحاد الذي أنشئ بقرار من رئيس الوزراء ويعنى بالمرأة والدفاع عنها، إلى أنه لا توجد لديهم أي إحصاءات للعنف التوليدي وأن النساء وذويهن يعتقدون أنه ليس بمقدورهم تقديم البلاغ والشكوى.

 تشير نتائج الاستبيان إلى أن 88,9% ممن تعرضن للعنف التوليدي لم يقمن بتقديم شكوى على الرغم من معاناتهن.

عدم الاعتراف بالعنف التوليدي!

في هذا التحقيق، التقينا بالقابلة مرام حسن (اسم مستعار)، وهي تعمل في قسم التوليد في إحدى المستشفيات الحكومية ومستشفى خاص بمدينة المكلا، وتذكر أنها تعمل منذ 15 عاما وأنه لا يوجد ما يسمى “العنف التوليدي”، وأن الأمر يُضخّم، مضيفة بأن ما يحدث في غرف الولادة ليس إلا مساعدة وتشجيعا للأم على الدفع الصحيح، فكثيرا ما تضيع الأم الوقت بالصراخ والبكاء الهستيري ويكون الطفل في مرحلة خطرة، وتدخل الأم في مرحلة الاستسلام وإضاعة الوقت في الحديث والتلاسن مع الطاقم الطبي، وترى أن هذا التوبيخ والصراخ لمصلحة الأم وجنينها.

أدوات غير معقّمة

خلال التحقيق، تروي سميحة يوسف (اسم مستعار) (35 عاما) حكايتها مع ولادتها الثالثة في أحد المستشفيات الحكومية في اواخر عام 2020. حين انتهت من الوضع، عانت من انتفاخ وتورّم جسدها كاملا، وأيضا عانى المولود، فأدخل للعناية المركزة منذ اليوم الأول للولادة ورُقّد لمدة 20 يوما. تفاجأت بعدها أن جميع الحالات التي دخلت للولادة بنفس التوقيت معها قد حُوّلن إلى غرفة الترقيد، وقد حصل معهن ما حصل لها، وتضيف سميحة بحسرة بأن التكلفة المالية التي تحملوها للعلاج هي وابنها كانت مرهقة جدا.

وتؤكد سميحة أن سُرة مولودها ظلّت منتفخة بشكل مقلق للغاية، فكان يتألم بشكل مستمر، وتشير فحوصاته إلى أنه هناك بكتيريا انتقلت إلى بطنه، وتحكي أن الطبيبة حين قامت بالفحوصات والاطلاع على حالتها. استهجنت الوضع وكادت تفقد أعصابها، وبدأت تتساءل بعصبية: ما هذا الإهمال؟ سألناها عن المشكلة، فأخبرتنا أن أداة غير معقمة قد استعملت في عملية قطع الحبل السري، وبدأت باللوم والتوبيخ معتقدة أني ولّدت منزليا، وتضيف سميحة: “أخبرتها أمي أن الولادة تمت بالمستشفى نفسه”، حينها تداركت الطبيبة الموقف قائلة: “لا مشكلة، وما فيك وطفلك إلا العافية”. وعن الآثار، تقول سميحة: “لا يزال ابني يعاني من تبعات هذا الأمر إلى يومنا، وما زلت أبكي بحرقة كلما تذكرت ما حدث”. رفضت سميحة ان تكمل الحوار المتبقي، وأغلقت الموضوع بقولها: “لا أريد الحديث عنه أبدا”!!

ترتفع نسبة النساء اللائي تعرضن للعنف التوليدي في مدينة المكلا عنها في المناطق الأخرى؛ إذ بلغت 6.67.% من مجمل الاستبيانات بسبب أن المدينة مركزا لثلاث محافظات هي شبوة والمهرة وحضرموت، ويوجد بها اثنان من أكبر مستشفيات الأمومة والطفولة الحكومية حيث بلغت عدد الولادات في مستشفي حكومي واحد فقط خلال العام الماضي فقط مايقارب4645 ولادة طبيعيةو1667 ولادة قيصرية.

نتائج الاستبيان الإلكتروني الذي نُشر تقول: إن هناك ما يقارب 48 من أصل 60 امرأة قمن بتعبئة الاستبيان تعرضن للعنف اللفظي وللإهمال والترك يصارعن آلام المخاض بمفردهن. تشير القابلة مرام بإن قلة العاملين في غرفة الوضع يجعل الأمهات يشعرن بالإهمال والترك. من الصعب أن تكون هناك ثلاث قابلات باستطاعتهن تغطية 15 حالة ولادة بغرفة الوضع، وتُشير إلى أن إدارة المستشفى تمارس أيضا عنفا آخر على القابلة، فتقوم هذه الأخيرة بنقل هذا العنف إلى غرفة الوضع.

أغلب القابلات اللائي قابلتهن في إعداد هذا التحقيق يشدّدن على أنه ليس من حق الأم أن تُستأذن بما يتعلق بقصّ العجان، وليس لها أن ترفض لأن هذا الإجراء لمصلحتها وأنهن يكتفين بأشعارها فقط، ولا يحصل ذلك دائما.

عنف توليدي منزلي

علياء صالح (اسم مستعار) (26 عاما) من مدينة الشحر هي أيضا تروي قصتها لنا أثناء تعرضها للعنف التوليدي. تقول: ” في الشهر التاسع، أخبرتني الطبيبة أن حجم جنيني كبير جدا، مما يعني الولادة في المستشفى وتحت العناية الطبية، حتى يتم التدخل فيما لو حدث طارئ. أجبرتني الظروف الاقتصادية على الولادة في المنزل لقلة ذات اليد، وعدم استطاعتي تحمل تكاليف الولادة في المستشفى. في شهر أكتوبر / تشرين الأول 2018، حدث لي أن ماء الجنين (السائل الأمنيوسي) بدأ بالخروج، فأحضروا لي قابلة للمنزل كانت كبيرة بالسن ومريضة، وتضيف علياء قائلة لأني بكرية كنت أجهل تماما الأمر وتبعاته. لم يجدِ الدفع نفعا بسبب كبر حجم الجنين. أجبرتني على المحاولة مرارا وتكرارا لكن لا فائدة. قررت من ذات نفسها أن تجلس على صدري ووجهها إلى بطني ثم دفعت مرارا وبقوة بيديها على بطني محاولة لدفع الجنين للخروج. تمزقت داخليا بسبب الدفع القوي، وأيضا حجم الجنين كان بحاجة إلى تدخل جراحي. خرج مولودي ولم يصدر أي صوتا أو حركة. أخفته القابلة عني معتقدة أنه توفى، بعدها لم أستطع الجلوس أو الوقوف أو المشي لأيام متواصلة. أخبرتني أمي أن النساء جميعهن يشعرن بذلك بعد الولادة، وحين أصررتُ على أنه أمر ليس طبيعيا ولم يخفّ حدة مع الوقت، استدعوا القابلة نفسها مرة أخرى. لم تنصحني أن أذهب للمستشفى. أخبرتني بتردد وبصوت منخفض حتى لا يسمعها أحد (تمزقتِ). حينها قرّرت أن أزور اخصائية نساء وتوليد فأخبرتني أنه أصابتني تمزّقات داخلية شديدة، وأنها لا تستطيع الآن أن تفعل شيئا، وأني لو كنتُ حضرت أول الأيام، فقد يجدي الأمر. حاليا أعاني من تبعات هذا الأمر في علاقتي الجنسية مع زوجي، وأحيانا يخبرني بأنه لا بد من عملية ترميم ما حصل”. تذكر علياء في حديثها أن المجتمع يحتاج للتوعية وأن القابلات الشعبيات أو المنزليات بحاجة لمزيد من التأهيل والتدريب.

تتحدث كثير من النساء اللاتي قابلتهن في صدد إنتاج هذه المادة أنهن تعرضن للضغط المبالغ فيه على البطن باستعمال الساعدين أو باستعمال (المرفقين) أثناء الولادة.

تذكر اختصاصية النساء والتوليد هناء بكُور أن هذه ممارسات خاطئة، ولم ثبت صحتها علمياً، وهي عادات متوارثة جيلا عن جيل، ولا علاقة لها بالتوليد، وتضيف الطبيبة بكور: “مضاعفات هذا الأمر كثيرة وخطيرة، ويُعاقب من يقوم بهذا الإجراء”.

في الاستبيان الإلكتروني الذي نُشر في صدد إنتاج هذا التحقيق والذي تمت تعبئته عينة من النساء بلغت 60 امرأة بلغت نسبة اللائي تعرضن للعنف التوليدي في المستشفيات والمراكز الصحية التابع لوزارة الصحة والسكان 90% وبلغت نسبة اللاتي تعرضن للعنف التوليدي في المستشفيات والمراكز الصحية الخاصة والمنزل نسبة 10%.

رحم ممزق!

خلال جولة التحقيق، التقينا بندى طالب (31 عاما) من مديرية دوعن في الوادي والصحراء الشق الآخر من محافظة حضرموت، وهي تحكي أيضا ما حدث لها فتقول: “في ولادتي الثالثة شهر سبتمبر 2010 دخلت مستشفى حكوميا في إحدى قرى مديرية دوعن، وكان حجم الجنين كبيرا جدا يستحيل معه الولادة الطبيعية. كشفت الدكتورة وأخبرتني أن الأمر طبيعي وأستطيع الولادة الطبيعية. مرت ثلاث ساعات وأنا أحاول الدفع والولادة بلا جدوى”.

وتضيف ندى: “قامت الطبيبة بِشق منطقة العجان من دون الرجوع لي. وبعد الولادة، تمت خياطة شق العجان بشكل سريع وعشوائي. لم تمر دقائق حتى أصبت بنزيف مرعب. قطع دم كبيرة جدا، كنت مستلقية على ظهري وصل النزيف إلى ظهري ورقبتي. كان يسيل على جانبي السرير، وسألتني هل هذه القطع الكبيرة من الدم من داخلك؟ ثم أدخلت يدها ومزقت كل الخياط الذي أحدثته بمنطقة العجان. كنت حينها أبكي وأصرخ. كان موقفا مرعبا قالت لي: “خلاص. خلاص. ما في مشكلة. سأخرج رحمك وسيتم خياطته وإرجاعه مكانه. اسكتي. اسكتي”. كانت الطبيبة أجنبية الجنسية، وقد ولّدتني بمفردها بغرفة الوضع من دون مساعد أو قابلة أو جراح”، وتكمل ندى: “حين كانت تخيط الجرح، انتفخت بطني للغاية، ولم تتوقف غزارة الدم. قامت بترميم الرحم وتركت خياط العجان مفتوحة مبعثرة، وطلبت مني النزول من السرير ولا يزال النزيف مستمرا، دخل حينها طبيب آخر. حين رأى ما أنا عليه، قام بتوبيخها وذكر أن ما حدث كارثة، وتكمل ندى “وضع لطبيب مربعات ثلج كبيرة على بطني، فقدت الوعي. لم أعد أشعر بأي شي حولي. بعد ساعتين تقريبا، استدركت قواي وفتحت عينيّ ولا يزال الثلج على بطني. خرجت للمنزل وحينما وصلت خرجت مني قطعة دم كبيرة. لا أعلم أكان دم تجمد من الثلج أم شيء آخر؛ مرت فترة الشهرين وأنا لا أستطيع الجلوس أو الوقوف؛ كنت أعاني من الدوار وفقدان الوعي لفترة طويلة، وجسمي كان متورما ما يقارب الشهرين، ما زلت أعاني من تقرحات وقرحة الرحم وأعاني مرارا من الالتهابات وهبوط في الرحم”. تكمل ندى حديثها قائلة: “لم أفكر في الشكوى، ولم أكن أعلم أنه يحق لي ذلك”.

تقول الدكتورة أميرة عبد الله (اسم مستعار): “تحدث هذه الحالة عند شدّ الجنين بشكل عنيف من الطبيب أو القابلة، مما يتسبب بخروج الرحم أو انفجاره، أو يتسبب بضعف عضلات التحكم في عملية التبول، ومن يقترفه يُقاضى؛ لأنه لا مجال فيه لأكثر من رأي طبي”.

تتكرّر حالات العنف التوليدي في الوادي والصحراء الشق الآخر من محافظة حضرموت بسبب جهل الناس هناك، وبسبب قلة الكادر وضعف المنظومة الصحية وانتشار ظاهرة الزواج المبكر وتدني مستوى التعليم، إضافة إلى أن النساء لا تحبذ الحديث عمّا حصل لهن ويتركنه للقضاء والقدر وثقافة العيب. خلال إعداد هذا التحقيق، تواصلت مع عدد من النسوة اللائي تعرضن للعنف التوليدي في مستشفى من مستشفيات الوادي، إلا أن الأغلبية لم يقمن بالموافقة على مشاركة ما حصل لهن حتى وان كان تحت أسماء مستعارة.

بحسب الاستبيان الإلكتروني، كانت نسبة اللائي تعرضن للعنف التوليدي في الوادي والصحراء ما يقارب 20% من إجمالي الاستبيانات.

تكتّم وغياب الشكوى

تفيد المحامية عتاب العمودي، محامية مترافعة أمام محاكم الدرجة الثانية في مدينة المكلا، أن النساء يكتفين بالحديث في التجمعات عمّا حدث لهن، وليس ثمة نوع من المطالبة بالحق، وأن التكتّم هو السبب الأكبر لزيادة الحالات. لهذا تتراجع النساء عن إكمال تقديم الشكوى لصعوبة إثبات ما حدث لهن أثناء وجودهن في غرف الوضع،

التخلص من باقي الذكريات!

خلال تحقيقنا هذا، حاولتُ بكل الطرق الحصول على وثائق طبية لكل حالة من الحالات التي استمعت إليها، ولكن جمعيها قد أتلفت الأوراق خاصتهن؛ إذ تعتقد النساء جهلا أن هذه الأوراق الطبية غير مجدية، بينما الأغلبية منهن قمن بذلك محاولة لنسيان ما حدث.

العقوبة إدارية والشاكي حر

يقول الأستاذ سالم كنيد مدير عام مكتب الشؤون القانونية في وزارة الصحة والسكان محافظة حضرموت: “لا يوجد في المحافظة مكتب للمجلس الطبي اليمني، والشاكي حر بتقديم شكواه للجهة التي يريد نيابة عامة أو ذات المستشفى الذي وقع فيه الخلل أو مكتب الصحة الذي بدوره يقوم بتشكيل لجنة مختصة حسب المجال الذي وقع فيه الخطأ ثم اتخاذ إجراء إداري، وعدم وجود مكتب للمجلس الطبي بالمحافظة إضافة إلى ثلاث محافظات أخرى هي شبوة وسقطرى والمهرة يضاعف الآثار السلبية”ويضيف “لم تقدم لدينا أي شكوى تتعلق بالعنف التوليدي”.

ترى المحامية عهد الكسادي، مدير إدارة الشؤون القانونية في مستشفى حكومي للأمومة والطفولة في المكلا، أن غالبية المشكلات والأخطاء الواقعة يتم حلها فنيا من دون إحالتها للجهات المختصة، ويكتفى في حالات نادرة بالجزاء الإداري فقط، خلال اعدادي لهذا التحقيق تواصلت مع الشؤون الفنية لاكبر المستشفيات الحكومية المختصة

بالامومة والطفولة للسؤال عن ماهية الشكاوى التي تتعلق بالعنف التوليدي الا انه لم يتم الرد

التشريع القانوني

هناك مواد قانونية في الدستور اليمني واللوائح التأديبية الداخلية للمجلس الطبي اليمني التابع لوزارة الصحة والسكان حول العنف التوليدي. تنصّ المادة 24 من القانون 28 لسنة 2000 واللوائح التأديبية الداخلية للمجلس الطبي بأن هذا العنف إذا ارتقى إلى الخطأ الطبي فإنه يخضع لتقييم لجان المجلس الطبي، وعلى أثره يحدد  الإجراء التأديبي المناسب.

تنصّ المادة ٢٢ من قانون تنظيم المهن الطبية على أنه يجب الحصول على موافقة المريض أو ولي أمره قبل التدخل الطبي. على رغم من وجود هذه المادة، تؤكد أغلب الحالات التي استمعت إليها أنه وقع التدخل الطبي بقص العجان من دون موافقتهن أو ولي أمرهن. تنص المادة ٣٦ أيضا من القانون نفسه على المساءلة الجنائية لأي مرتكب لفعل يُعدّ جريمة وعلى تعويض مَن لحقه ضرر، وينص القانون أيضا في المادة 24 منه على أن للمجلس الطبي اليمني الحق في اتخاذ إحدى العقوبات التأديبية والتي تصل إلى حد سحب تراخيص مزاولة المهنة أو الغرامة المالية والسجن على من ثبت ضدهم الإضرار بالمرضى بسبب الإهمال وارتكاب الأخطاء الطبية غير المبررة وعدم الحفاظ على حقوق المرضى في تلقي رعاية صحية متكاملة.

تتعرض غالبية حالات العنف التوليدي في هذا التحقيق إلى مخالفات قانونية وأخلاقية في التعامل مع النساء أثناء الولادة على عكس ما تنصّ عليه المادة ١٩ من قانون تنظيم المهن الطبية، التعامل على أنه أمر عادي بشكل مستمر يؤدي إلى تكرار ومضاعفة أشكال العنف التوليدي وخطورته على حياة الأم الحامل وجنينها، ما لم تقم الجهات المعنية بدورها الرقابي وتصحيح الأخطاء وتعويض الحالات المتضررة وتهيئة بيئة سليمة للولادة من كادر وخدمات، ومحاسبة كل متسبب في هذه القضايا أولا بأول وفق ما شرّعه القانون والدستور واللوائح الداخلية للمجلس الطبي وقانون تنظيم المهن الطبية وقانون الجرائم والعقوبات، مع التوصية للجهات المدنية والاجتماعية المعنية بالمرأة والطفل والصحة الإنجابية بالعمل على زيادة الوعي الشامل للمرأة وجميع المنظمات تجاه هذه القضية للحفاظ على الأم وجنينها.

أُنتجت هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية.

مقالات مشابهة