المشاهد نت

هل تلهم تجارب السلام في اليمن القديم إنهاء الحرب؟

توثق النقوش اليمنية تفاصيل الصراعات ومعاهدات السلام التي شهدها اليمن قديما

تعز- عبدالعالم بجاش

منذ نهاية القرن الثامن قبل الميلاد وبداية القرن السابع ق.م وحتى القرن الثاني ق.م، اتسمت تلك الحقبة بدورة من الحروب الشرسة بين الممالك اليمنية القديمة، أشرسها الحرب بين مملكة سبأ وحلفائها ومملكة أوسان الجنوبية وحلفائها المعافر. تمكنت أوسان من هزيمة سبأ في البداية وبسط نفوذها على طرق التجارة القديمة، غير أن سبأ التي كانت في الغالب تشن حملات غزو متكررة على الممالك اليمنية بهدف السلب والنهب والسبي وللتدمير، عاودت تشكيل تحالفات واسعة، وشنت حروبًا شرسة على مملكة أوسان، ودمرت مدن المعافر وكثيرًا من مدن أوسان.

اتسمت تلك الحقبة بحروب شاملة اشتركت فيها معظم الكيانات والممالك، وبتنافس سياسي، وبنزعة شرسة للاقتتال وتدمير المدن وتهجير السكان، بخاصة من جانب سبأ في عهد ملكها كرب إيل وتر، وقليلًا ما تحققت مصالحات أو هدن وتسويات في عهده وعهد سبأ.

ومن بداية القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الثاني قبل الميلاد، شهدت ممالك اليمن استمرار الصراعات والحروب، ووصفت أبحاث تاريخية تلك الحقبة بمرحلة النزاعات ذات السمة الثنائية، عقب حسم سبأ لمرحلة صراعات بداية القرن السابع قبل الميلاد، طبقًا لدراسة تاريخية بعنوان “الصراع بين الممالك اليمنية القديمة أسبابه ونتائجه القرن ٧-٢ ق.م”، والصادرة عام ٢٠٠٨، للباحث عبدالله علي عطبوش، أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ القديم، جامعة دمشق.

كانت الحروب سجالًا بين الممالك اليمنية القديمة، ومنذ نهاية القرن الثامن ق.م وبداية القرن السابع ق.م، كان للحرب آثار سياسية واقتصادية واجتماعية، أخطرها ظهور نمط حرق المدن وتهجير السكان والسبي، وقبل ذلك كان الطرف المنتصر يفرض على الطرف المهزوم إتاوات فقط. يندر في تلك الحقبة الحروب التي انتهت باتفاق صلح وسلام، باستثناء حالات نادرة اضطر لها ملك سبأ كرب إيل وتر، خلال حملاته الحربية التي امتدت من المعافر جنوب غرب، وشملت أجزاء واسعة في اليمن القديم.

مآلات الحرب في الماضي والحاضر

خلال القرن الأول قبل الميلاد ومرحلة ما بعد الميلاد، ومع نشأة وازدهار مملكة حمير، استمرت الصراعات والحروب في الممالك اليمنية، مع ظهور حالات متكررة لاتفاقات سلام وهدن، مع توجه مملكة حمير لتوحيد كامل ممالك اليمن القديم ضمن كيان واحد. ومع ظهور مملكة حمير برزت ولأول مرة اتفاقيات صلح أنهت بعضًا من أشرس الحروب بين ألد الأعداء من ملوك سبأ وحمير، وانضواء سبأ لاحقًا ضمن مملكة حمير. كما شهدت تلك الحقبة ولأول مرة اتفاق القوى اليمنية المتصارعة ضد عدو خارجي هم الأحباش، وخوضهم معركة لإنقاذ مدينة ظفار عاصمة مملكة حمير، من الحصار والسقوط.

في دراسة للباحث معمر الشرجبي، حملت عنوان “الأسرى في النقوش اليمنية القديمة -دراسة تحليلية”، يؤكد الباحث أن “الممالك اليمنية القديمة خاضت حروبًا كان معظمها بين قبائل مستقلة سجلت أخبارها بين سطور نقوش تعرف بالنقوش التذكارية، يؤرخ بعضها بالقرون الأولى قبل الميلاد، بينما يؤرخ معظمها بحوالي القرنين الثاني والثالث الميلاديين”.

والواقع أن التاريخ اليمني حافل أكثر بتفاصيل الحروب ونتائجها من قتل وتدمير وسبي، حتى إن نقش النصر الذي يوصف بأنه من أهم النقوش الأثرية اليمنية، إنما يدون لانتصارات الملك السبئي كرب إيل وتر، وإسقاطه مملكة أوسان الجنوبية من أطرافها المعافر، عبر غزوه للمعافر (تعز حاليًا)، وتدميره نحو ١٢ مدينة من مدن المعافر، وقتله نحو ١٦ ألفًا من رجالها ونسائها وأطفالها.

إن غالبية الحروب القديمة على الجغرافيا اليمنية لم تكن لتنتهي غالبًا إلى تصالح واتفاق لإنهاء النزاع والحرب، ففي كثير حالات كانت تنتهي إلى مآلات تدميرية، وهو أمر يتكرر حتى اليوم.

وإن تقصي حالات الصراع والنزاعات والحروب التي انتهت إلى عقد اتفاقات سلام قديمًا، تعد محدودة استنادًا إلى النقوش الأثرية المسندية القديمة وعلى صلة بحقبة مملكة حمير.

ففي عهد مملكة حمير، وخلال انهيار سد مأرب، تذكر الدراسات التاريخية إقرار هدنة ووقف الحروب وتوحيد الجهود لإعادة بناء السد.

هدنة لوقف التقطع لطرق القوافل

تحدد بعض الدراسات التاريخية اليمنية قيام هدنة بين قبائل حضرموت والسبئيين في مأرب، سنة ١٠٠٠ قبل الميلاد وما تلاها.

كانت تجارة اللبان والبخور تشهد ازدهارًا في حضرموت واليمن ودول الشرق القديم، بخاصة مصر.

كانت القوافل التجارية لقدماء المصريين وغيرهم تنتشر على طريق البخور باتجاه مأرب وحضرموت، وكانت القوافل تتعرض لهجمات من قطاع طرق، وعمليات نهب وسلب، وهو ما أشعل صراعات وحروبًا بين قدماء السكان في حضرموت والسبئيين.

وتم عقد هدنة بين الجانبين نصت على عدم تعرض السبئيين للقوافل على طرق التجارة “مقابل دفع ضرائب للطرق التي تمر بمأرب”.

كانت النزاعات والحروب تتمحور حول الطرق التجارية وأسباب أخرى لفرض، وأدى حصول السبئيين على ضرائب لقاء مرور القوافل التجارية عبر مأرب، إلى ازدهار مملكة سبأ التي قامت منذ عام ٩٥٠ قبل الميلاد. بعد ١٠٠ عام ستنشأ مملكة قتبان، وتخوض نزاعات ضد مملكة سبأ. تكررت مئات الحروب في تاريخ اليمن القديم، نلاحظ ذلك في النقوش، ومنها نقش زيد عنان 57، وحول ذلك يقول الباحث عبدالرحمن السعيدي إن “هذا النقش يتحدث فيه القيل مرثد الجرافي قائلًا إنه أهدى إلمقه تمثالًا ذهبيًا حمدًا لأنه نجاه في المعارك التي رافق فيها سيده الملك سعد شمس أسرع وابنه مرثد ملوك سبأ وذي ريدان، في أرض ردمان، ضد ملك قتبان نبط وملك حضرموت يدع إل وقبائل مضحي وردمان”.

يضيف الباحث السعيدي: “النقش يتحدث عن خوض الملك سعد شمس ملك سبأ وذو ريدان حربًا مع حضرموت وقتبان، وسبب هذه الحرب دعم ملوك قتبان وحضرموت وتحالفهم مع الملك ذمار علي يهبر بن ياسر يهصدق الحميري ضد أقيال سبأ المتناحرين. حينها كان الحميريون تحت قيادة الملك ذمار علي، يحاربون من أجل الحكم، فتحالف ذمار علي مع حضرموت وقتبان، ليقوي موقفه السياسي والحربي ضد حكم أقيال سبأ المتنازعين في ما بينهم وقتها على من يتولى الحكم منهم”.

كان النزاع سمة سائدة حتى داخل كل مملكة، وأحيانًا كان ٣ ملوك يتشاركون حكم مملكة، ويطلق على كل منهم صفة ملك. ورغم ما هو متعارف عليه بين الباحثين حول شحة المصادر المتعلقة بدراسة التاريخ اليمني القديم، ووجود حلقات مفقودة في التاريخ اليمني، وشكل من التسييس، يبرز التداخل خلال مراحل التاريخ اليمني، حيث نلحظ وجود عدة ممالك وتصارعها في الوقت نفسه خلال حقب تاريخية، وكذلك أكثر من مركز حاكم أو ما يسمى بلغة اليوم عاصمة.. هذا التعدد عكسه أيضًا تعدد الآلهة اليمنية القديمة إلمقه وعثتر وغيرهما، وصولًا إلى عهد المملكة الحميرية ودورها في تأسيس العبادة التوحيدية لإله واحد هو “رحمن”، ضمن جهودها لتوحيد كل الممالك في منظومة واحدة وحكم ذاتي، وبما جعل مملكة حمير هي منشأ ديانة التوحيد بحسب بعض الدراسات.

صراعات على السلطة وتبدل التحالفات

تبدل التحالفات أثناء النزاعات يكاد يكون سمة يمنية ضاربة الجذور في التاريخ، قصة سعد شمس مثالًا، فقد كان قيلًا لقبيلة ذي جرة وملكًا لسبأ خاض حروبًا ضد الملك الحميري ذمار علي، ثم عاد قيلًا لقبيلته، إذ تولى عرش مملكة سبأ قيل آخر خاض حروبًا أيضًا ضد الملك الحميري وحليفه سعد شمس ملك سبأ السابق. هذا المشهد تكرر خلال السنوات السبع الماضية من الحرب الأهلية في اليمن.

يروي النقش جلازر 1228 عن صاحب النقش، ويدعى سعد تالب، وكان قائدًا في الجيش السبئي، قائلًا إنه “أهدى الإله تألب ريام تمثالًا ذهبيًا حمدًا على سلامته من المعارك التي رافق فيها سيده الملك وهب إل يحوز ملك سبأ عندما حارب ذمار علي الريداني وسعد شمس ومرثد وقبائل ذي ريدان والقبائل التابعة لسعد شمس ومرثد، ويشكر الآلهة على سلامته في الحروب، كما يشكر قبائل مخطران وبني سخيم وخولان التي رافقت الملك وهب إل يحوز في تلك الحروب”.

في تعليقه على النقش يقول الباحث السعدي إنه “من الواضح أنه عند نشوب المعارك بين وهب إل ملك سبأ وذمار علي، وقف سعد شمس قيل ذي جرة بجانب ذمار علي، عدوه القديم وحليفه الجديد ضد الملك وهب إل يحوز الهمداني، وباعتقادي أنه لا يوجد سبب منطقي لتغيير موقفه سوى موضوع الخلع من الحكم وتنصيب الملك وهب إل يحوز”.

انتقال السلطة مصدر نزاع

لم يكن انتقال السلطة بالأمر السهل في اليمن القديم، إذ كان سببًا في نشوء نزاعات واشتعال حروب كما في الوضع الراهن.

في كتابه “ملوك حمير وأقيال اليمن”، يروي نشوان الحميري جانبًا من الأحداث في مملكة حمير: “بعدما توفي “شدد” قام بعده ابنه “وتَّار” الذي كان ولي عهده، لكن لم تطل مدة وتَّار ولم تثبت قدمه في الملك حتى نازعه عمومته بنو الصوار في الأمر، وتداعوا إلى الحرب، فلما رأت ذلك وجوه حمير خافوا الفرقة وحاذروا القطيعة، فرأوا خلع وتَّار وإخراج عمومته من الملك، وفتلوا حبل الملك في يد بُتع بن زيد، فملك بُتع وحسنت سيرته ورضي بذلك بنو الصوار، وقربهم جميعًا وأدناهم وآثرهم، فكان له الاسم ولهم الجسم”.

يقول الباحث السعيدي إن الملك شدد المذكور في كتاب نشوان الحميري هو الملك الشرح يحضب الأول المذكور في عدة نقوش، أما الملك وتَّار هو المذكور في النقوش باسم وتَّار يهأمن يهرحب بن الشرح يحضب (الأول).

فشل احتواء نزاعات

يرى الباحث السعيدي أن النقوش القديمة نقلت لنا معرفة بشأن كيف انتهت الحروب في اليمن قديمًا. ويقول إن “إحدى الخلاصات من التاريخ اليمني هو أن اشتعال الحروب كان نتيجة حتمية للفشل في احتواء النزاعات الداخلية، والمتأمل للتاريخ يدرك أن وضع اليمن في ذلك الزمن هو ذات الوضع الذي تمرَّ به اليمن حاليًا من صراعات وحروب نعيش أحداثها على الواقع، فالتاريخ يعيد نفسه من جديد، لكن الاختلاف يكمن في أننا لا نعلم كيف ستكون نهايتها، أما أحداث الماضي وكيف كانت نهاية تلك الحروب، فنقلتها إلينا النقوش”.

النقش CIH 315: الحرب والهدنة

يستشهد الباحث السعيدي بـ”ما وثقه النقش CIH 315، وهو نقش يتحدث عن حروب شملت كل أنحاء اليمن القديم، والذي كان عبارة عن ممالك متعددة، أعقب تلك الحروب هدنة بين ملوك سبأ وملوك ذي ريدان وملوك حضرموت وملوك قتبان وجيوشهم وقبائلهم، قد يكون النقش من أهم المصادر التاريخية قبل الميلاد ببضعة قرون، تشير إلى جهود إنهاء حروب شاملة ونزاعات من خلال هدنة ومصالحة، لإيقاف وإنهاء الحرب بين ملوك سبأ وملوك ذي ريدان وملوك حضرموت وملوك قتبان وجيوشهم وقبائلهم، التي اشتعلت بكل الأراضي بين كل الملوك وجيوشهم وقبائلهم.

يعود تاريخ النقش تقريبًا إلى القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد، صاحب النقش هو الملك يهعان ذبيان، ويمكن وصفه بوثيقة تاريخيه تعلن عما يمكن تسميته توقيع معاهدة -صلح -هدنة لإيقاف تلك الحرب، كان بطل الهدنة القيل يريم أيمن الهمداني المذكور في نقش زيد عنان 57″.

هدنة ومصالحة لإنهاء حرب

المفهوم العام للنقش CIH 315 وفقًا للباحث السعيدي، واستنادًا لمفردات النقش، يمكن التعبير عنه على النحو التالي: “يريم أيمن وبارج يهرحب أبناء أوسلة رفشان الهمداني أقيال قبائل سمعي ثلثي قبائل حاشد أهدوا إلههم الحامي تألب ريام رب معبد ترعة ستة تماثيل حمدًا وشكرًا يوم أعانهم تألب في تحقيق السلام والصلح عندما استطاع يريم أيمن الهمداني التوفيق بين ملوك سبأ وملوك ذي ريدان وملوك حضرموت وملوك قتبان وجيوشهم وقبائلهم لإيقاف وإنهاء الحرب التي اشتعلت بكل الأراضي بين كل الملوك وجيوشهم وقبائلهم، حيث استطاع يريم أيمن الهمداني أن يرضي ويقنع جلالة ملوك سبأ وملوك بني ذي ريدان وسائر الملوك بهذا السلم والصلح والهدنة، وقد أتم يريم أيمن الصلح بين الملوك والجيوش بفضل إنعام وتوفيق تألب ريام صاحب الفضل والإنعام والقوة والمقام العالي إلههم الحامي تألب ريام الذي أعان ووفق يريم أيمن وبارج يهرحب أبناء أوسلة رفشان الهمداني لهذا السلام وتوقيع الصلح المؤرخ في سنة ثوبان بن سعد اليهسحمي، وللآلهة الحمد على هذا الفضل والإنعام، ولتستمر بإنعامها وفضلها بإسعادهم في حيازتهم على الحظوة والرضا عند سادتهم ملوك سبأ”.

وفي تعليقه على النقش يرى الباحث السعيدي أن القيل يريم أيمن الهمداني قام بدور أشبه بالمبعوث القبلي لحل الأزمة في ذلك الزمن، ومهندس الاتفاقية التي لم تنهِ الحروب تمامًا في ذلك الوقت، لكنها شكلت بارقة أمل تؤكد أن اليمنيين يمكنهم حل مشاكلهم ونزاعاتهم بأنفسهم.

تجدد الحروب

اشتعلت الحرب مجددًا، بعد توقيع الهدنة، دون معرفة أسباب ذلك. يقول السعيدي: “جاء في النقش CIH 315 أن القيل يريم أيمن تمكن من إيقاف الحرب وتوقيع الملوك للصلح والهدنة، لكننا لا نعلم ما الذي حدث بعد ذلك لتشتعل الحروب من جديد، فهناك ثغرة لم تغطها النقوش المكتشفة”.

ويشير الباحث إلى أن الصلح استفاد منه اثنان تحديدًا؛ أحدهما هو القيل يريم أيمن “فمن الواضح أن الدور البارز الذي لعبه في تحقيق الهدنة، جعل منه شخصية بارزة تحظى باحترام ملوك وأقيال سبأ، فأصبح ضمن دائرة صناع القرار، بل إنه اشترك في حكم سبأ مع الملك كرب إل وتر يهنعم، وبشكل لا نعلم كيفية حدوثه، إلا أن نقش زيد عنان 5 ورد فيه معلومات مؤكدة عن مشاركته في الحكم”.

مملكة حمير

بالنسبة للملك ذمار علي الحميري، فقد “أتاح له هذا الصلح تولي سدة الحكم في سبأ، ووصل إلى مأرب عاصمة سبأ التاريخية، ليتسلم العرش لأول مرة في تاريخ الصراع الحميري السبئي، وهو ما أشار له مطهر الإرياني في تعليقه على النقش Ir 6”.

حينها كان الحميريون ملوك ذي ريدان “في حروب مستمرة مع ملوك سبأ حتى إن سيطرتهم امتدت إلى أراضٍ ومناطق في عمق مملكة سبأ، فوصلوا إلى جنوب العاصمة صنعاء حاليًا”.

خطوة الصلح التي لعب فيها يريم أيمن الدور البارز، بحسب الباحث السعيدي، “جعلت الحميريين يقفون على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة استمر بالسعي لتحقيقها الملوك الحميريون بعد وفاة الملك ذمار علي يهبر، حتى جاء الملك شمر يهرعش الذي استطاع إنهاء الصراع تمامًا، موحدًا كامل التراب اليمني تحت راية الإمبراطورية الحميرية، نهاية القرن الثالث الميلادي”.

60% من النقوش اليمنية حربية

شكلت النزاعات جزءًا كبيرًا من تاريخ الممالك اليمنية القديمة.. يقدر الباحثين أن ما نسبته ٦٠% من نقوش المسند اليمنية القديمة هي نقوش حربية.

يؤكد الباحث في التاريخ اليمني معمر الشرجبي أن النقوش الحربية أخذت حيزًا كبيرًا من إجمالي عدد نقوش المسند، يتجاوز ٦٠% من النقوش التذكارية الرسمية التي تتحدث عن الحروب والمعارك التي خاضها اليمنيون، إما عن الحروب الداخلية بين الممالك القديمة، أو تلك التي توحد فيها اليمنيون ضد الأعداء الخارجيين.

ويروي الباحث الشرجبي واحدة مما يمكن اعتبارها تجربة ملهمة من التاريخ اليمني بشأن النزاع والسلام، مستندًا إلى نقش الملك إل شرح، وهو نقش قديم لم تنشر حوله بيانات قبل ٢٠١٨م، وفقًا للباحث، ومايزال النقش قيد الدراسة. محتوى النقش يعد نموذجًا لحالات إنهاء النزاع الداخلي والحرب لمواجهة خصم خارجي.

مضمون النقش يعود إلى حقبة حكم كان فيها اليمن منقسمًا إلى جزأين؛ الأجزاء الشمالية والشمالية الشرقية من اليمن، وعاصمتها صنعاء، تحت حكم الملك إل شرح يُحَضِّب، ملك سبأ وذي ريدان، والجزء الآخر، بحسب الباحث الشرجبي، “تحت حكم الملك شمِّر يُهحمد، ملك سبأ وذي ريدان، الذي حكم الأجزاء الجنوبية والجنوبية الغربية من اليمن، وكانت عاصمة حكمه ظفار.

كل من إل شرح في صنعاء وشمر يهحمد في ظفار حكما ما بين 250 إلى 260 ميلادية تقريبًا، ويضرب بهما المثل في العداء التاريخي من قبل بعض الباحثين، لكن في لحظة صدق يقول الشرجبي “قد يذهب كل ذلك العداء ليحل محله التآخي”.

ويضيف: “بهذا النقش يتحدث الملك إل شرح عن المعارك التي خاضها ضد الأحباش وبعض الشعوب الأخرى الذين تحالفوا معهم، كما يتحدث عن معارك أخرى توحدت فيها قوات الملكين العدوين سابقًا والحليفين حينها ضد العدو الحبشي، حيث يوثق النقش الصلح الذي جرى بين السبئيين والحميريين، وكيف توحد الخميس (الجيش) الحميري والخميس السبئي في مواجهة الأحباش، رغم كل العداء والحروب بينهم”.

مصالحة تاريخية بين سبأ وحمير

مستندًا إلى نقش الملك إل شرح، يقول الباحث الشرجبي إن مصالحة تاريخية بين ملك سبئي وملك حميري، وكانا اثنين يضرب بهما المثل في العداء، وكانت بينهما حروب ضارية، لكنهما تصالحا بالنهاية، واتحد جيشاهما، وتمكنوا من الانتصار على الأحباش.

ولإيضاح كيف جرت الأحداث، يروي الشرجبي النقش في قصة، فـ”بعد انتهاء معركة خاضها الخميس السبئي (الجيش) بقيادة الملك إل شرح يُحَضِّب، بالقرب من جبل وحادة وسط أرض السهرة، يومها كان الملك وجيشه في حالة إجهاد شديدة جراء المعارك المتتالية بينه وبين الحميريين.

وقد توجه الملك وجيشه المنهك بعد المعركة نحو صنعاء، وتوقفوا للراحة بإحدى المناطق على مشارف ما تسمى اليوم محافظة المحويت.. وهو لا يدري ما ستكون عليه نهاية هذه الحروب.

كانت حروبًا متتالية تارة بين الجيش السبئي والجيش الحميري، وتارة مع الأحباش الذين يتلقون الدعم من الرومان.. كانت الحروب استنزافية للسبئيين والحميريين، ومنهكة لكلا الطرفين، وكانت الحاجة ملحة للتصالح بينهما.

وسرعان ما جاء وفد من الحميريين مرسل من الملك الحميري شمَّر يُهَحْمِدْ ذي ريدان، لعرض الصلح والسلام والتآخي بين الحميريين والسبئيين، واستجاب الملك إل شرح يُحَضِّبْ، وتم الاتفاق على إنهاء الخلافات والحروب، وتوحد الجميع في مواجهة الأحباش”.

الأسرى في النقوش اليمنية القديمة

لا تتوفر العديد من الدراسات والمراجع مكرسة لمعرفة طرق وآليات إنهاء الحروب والنزاعات في اليمن القديم، غير أن العديد من النقوش المسندية القديمة والمتناثرة وثقت أحداثًا كثيرة شملت أحيانًا معلومات لحالات تم فيها عقد هدنة أو صلح، وفي حالات حدث ذلك بعد انتصار طرف على طرف آخر.

في دراسة “الأسرى في النقوش اليمنية القديمة”، وهي دراسة تحليلية، للباحث معمر الشرجبي، تبين من خلالها “قلة أعداد الأسرى قياسًا بأعداد السبايا، بالإضافة إلى عدم ذكر الألفاظ الدالة على الأسرى في معظم النقوش التي تعود إلى عصر المكاربة وتلك التي تعود إلى الفترة السبئية المتأخرة”.

يتحدث الباحث أن بعض النقوش السبئية دونت أخبار حروب وتفاصيلها ضمن سياق النقوش التذكارية الدينية التي كانوا يتقربون بها إلى معبوداتهم حمدًا لها على ما حققته لهم من انتصارات أو غنائم استولوا عليها. وفي كثير من هذه النقوش يرد ذكر غنائم هذه الحروب من بينها الأسرى من المحاربين والسبايا والرهائن.

تقول الدراسة إن الممالك اليمنية القديمة خاضت حروبًا كان معظمها بين قبائل مستقلة سجلت أخبارها بين سطور نقوش تعرف بالنقوش التذكارية، يؤرخ بعضها بالقرون الأولى قبل الميلاد، بينما يؤرخ معظمها بحوالي القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وأن ما سجل منها بغرض التوثيق لهذه العمليات العسكرية، فربما يعود في رأي بعض الباحثين إلى القرن السادس الميلادي.

كان من بين أخبار الحملات المدونة في هذه النقوش ما يتعلق بتعداد الجيش ومناطق المعارك والانتصارات التي حققها القواد أو الحكام وتمجيد شخصياتهم والغنائم التي غنموها، ولعل من أبرز الأمثلة على هذه النصوص نقش النصر الذي يسجل انتصارات المكرب السبئي كرب إل وتار على مملكة أوسان وغيرها من المناطق.

من بين النقوش التي تشير إلى حروب، بحسب الدراسة، تلك التي تعود إلى العصرين السبئيين الأوسط والمتأخر، ومن أشهرها نقوش محرم بلقيس، والنقوش التي تعود إلى فترة الصراع بين الحميريين والأحباش. والملاحظ من خلال تحليل أحداث هذه الحروب -وفقًا للدراسة- أن الكيانات أو القبائل التي تخسر في القتال لم تكن في الغالب تترك أراضيها.

الرهائن في التاريخ اليمني القديم

وفقًا لدراسة “الأسرى في النقوش اليمنية القديمة”، فقد سجلت بعض حالات تقديم الرهائن في اليمن القديم، منها تلك المذكورة في نقش المعسال 5، والذي يشير إلى تقديم رهائن في عهد ياسر يهنعم، وأيضًا النقوش Ja 577 Ja 574 – Ja 576. وكان هناك نوعان من الرهائن: رهائن من الأبناء والبنات، وأخرى من الرؤساء والأحرار، ويبدو أن ظاهرة تقديم الرهائن بدأت بشكل واضح في القرن الثالث الميلادي.

والغالب في النقوش -حسب الدراسة- أنها كانت تذكر الأسرى بصفة عامة دون تحديد لوظائفهم أو مكانتهم أو أسمائهم، إلا أنه ورد ببعضها ذكر لأسماء الأسرى ووظائفهم مثل النقش Ir 32 وصاحبه سعد تألب الجدني كبير أعراب ملك سبأ وكندة ومذحج وحريم وباهل وزيد إل وكل أعراب سبأ وحمير وحضرموت ويمنت، والذي يشير إلى حملات قام بها بأمر الملك، حيث ورد في النقش “وآبوا عائدين إلى مدينة ظفار نحو سيدهم الملك، وأحضروا معهم المدعو أنمار الذي نصبه أهل حضرموت ملكًا، وربيعة بن وائل وأفصي بن جمان وجشم بن مالك وأسد بن سلمان وعديت بن أنمار وقيس بن بشر إل وبهثم بن سكي وثوبان بن جذيمة الصدفي”.

بعض النقوش ذكرت وقوع شخصيات في الأسر أكثر أهمية من القواد أو الرؤساء، وهم الملوك أو الحكام، مثل النقش Ir 13 الذي يشير إلى أسر العزيلط ملك حضرموت، وكذلك النقش Ja 576 الذي يذكر أسر ملك كندة مالك، ومن خلال ما حدث معهما بعد وقوعهما في الأسر يمكن الاستدلال على الطريقة التي كان يعامل بها الملوك أو الحكام أو كبار الشخصيات حينما يتم أسرهم.

بحسب الدراسة تم اقتياد ملك حضرموت العزيلط إلى العاصمة مأرب. لا يشير نص النقش صراحة حول ما حدث له بعد ذلك، إلا أنه يبدو أن الملك شعر أوتر عقد معه اتفاقية سلام أطلق بموجبها سراحه من الأسر، وأعاده ليحكم شبوة عاصمة حضرموت، ربما ضمن الاعتراف بالسلطة العليا لسبأ كما يقول الباحث، ولعل ما يؤكد ذلك أن شعر أوتر، شن حملة عسكرية على حضرموت لمناصرة الملك إل عزيلط ضد الثوار الذين ثاروا ضده ترددت أحداثها في النقش Ja 640. والذي يمكن استخلاصه من ذلك أن الملوك كان يطلق سراحهم في الغالب بشرط اعترافهم بسلطة من وقعوا في أسرهم”.

بالنسبة لملك كندة مالك الذي أسر في عهد الملك إل شرح يحضب، وتم اقتياده إلى العاصمة مأرب، فذلك “بسبب نقضه للعهد هو وزعماء كندة بتسليم امرؤ القيس ملك الخصاصة، فاحتجز أو أسر ملك كندة وكبار كندة إلى أن حضر امرؤ القيس، وأعطوا رهائن من قبيلة كندة”.

ويفهم من ذلك -بحسب الدراسة- أن إطلاق سراح الملك من الأسر كان مرهونًا بتسليم شخصية ما، وفي نفس الوقت بتسليم رهائن.

خطأ الحروب القديمة

وقعت اليمن تحت الاحتلال الحبشي لمرحلتين من الزمن، وفقًا للدراسات التاريخية، أول تدخل خارجي جاء بطلب من همدان للأحباش. كما وقعت أجزاء صغيرة من اليمن تحت النفوذ الفارسي بعد أن استنجد بهم سيف بن ذي يزن لمساعدته في طرد الأحباش من اليمن.

كان ذلك نتيجة التدخل الخارجي الذي استدعته ظروف النزاعات الداخلية الشرسة.

يقول الباحث الشرجبي إن “الأحباش استغلوا حالة الصراع بين حكام اليمن القديم، فعملوا على إقامة قواعد عسكرية في نجران وتهامة وسواحل البحر الأحمر وباب المندب، واتخذوا منها مراكز لشن الهجمات داخل العمق اليمني، وتوغلوا تدريجيًا على الأرض اليمنية، فاشتعلت الحروب بينهم وبين أبناء اليمن، وكانوا يحاربون كل الأطراف، فتارة في حروب ضد السبئيين، وتارة في حروب ضد الحميريين، وتارة أخرى يدخلون في اتفاقيات مؤقتة مع طرف ليتسنى لهم الاستفراد بالآخر. وهكذا استمرت الحروب معهم لوقت طويل”.

بالعودة إلى نقش زيد عنان 5، يقول الباحث عبدالرحمن السعيدي إن النقش يذكر صراحة أن يريم أيمن أصبح شريكًا في الحكم مع كرب إل وتر يهنعم ملك سبأ، وقد استطاع الملك يريم بطريقة أو بأخرى الانفراد بالحكم ومن ثم توريث العرش لابنه علهان نهفان الذي بدوره ورثه لأبنائه حيو عثتر يضع وشاعر أوتر.

فترة حكم الملك يريم لم تكن طويلة، فالنقوش التي تعود إلى عهده قليلة. لكن بعد أن تولى الحكم ابنه علهان نهفان أظهرت النقوش أن وضع اليمن لم يستقر، حيث استمرت الحروب في عهده، مما جعله يسعى للتحالف مع عدة أطراف ليضمن الحماية والقوة، لدرجة أن الملك علهان نهفان قام بتزويج ابنته “ملاك” على الملك يدع أب غيلان، ملك حضرموت، والهدف من المصاهرة عدم تحالف ملوك حضرموت مع الحميريين، وقام أيضًا بعقد اتفاقية دفاع مشترك مع ملك أكسوم، ويدعى جدروة، وهذه كانت من أفدح الأخطاء التي ارتكبها الملك علهان نهفان، ونقلها إلينا نقش الملك علهان يتحدث فيه قائلًا بأنه أهدى 30 تمثالًا للإله تألب ريام، كما قام بترميم معبد إلمقه حمدًا للآلهة على إنعامها وتوفيقها بعقد معاهدة تحالف مع جدورة ملك أكسوم، حيث تقضي الاتفاقية بين الطرفين بالتعاون أيام السلم والحرب، وأن الاعتداء على أحد الطرفين هو بمثابة اعتداء على الطرفين معًا، ومحاربة كل عدو يريد شرًا بأحدهما، كما يذكر في النقش التحالف مع ملك حضرموت والحروب ضد بني ذي ريدان وغير ذلك من الأحداث…”.

التدخل الخارجي

كان الحميريون في حروب مستمرة مع ملوك سبأ، حتى إن سيطرتهم امتدت إلى أراضٍ ومناطق في عمق مملكة سبأ، فوصلوا إلى جنوب صنعاء، ويقول الباحث السعيدي إنه “عندما لم يلمس الملك علهان نهفان ملك سبأ أي دعم في تلك الحرب من زوج ابنته وصهره الملك يدع أب غيلان ملك حضرموت، والذي ربما كان يرى بأنها شأن داخلي في سبأ، يبدو أن علهان خاف من سقوط العرش بيد الحميريين اليمنيين، فسارع للارتماء بأحضان الأحباش”.

تكرر الأمر في عهد ابنه الملك شاعر أوتر ملك سبأ، غير أن أبرز قادته انشق عنه في ما يبدو، وتحالف مع خصومه الحميريين للدفاع عن عاصمتهم ظفار ضد الغزو الحبشي.

باحثون آخرون، ومنهم السعيدي، يقولون بأن شاعر أوتر شارك والده علهان نهفان في الحكم كولي عهده، وحين وقع الاتفاقية مع الأحباش (مملكة أكسوم)، وأنه تراجع عن الاتفاقية بمجرد توليه الحكم، وشاركت قواته في حروب ضد الأحباش.

بحسب مصادر تاريخية، كانت بداية الحروب بين اليمنيين والأحباش بعد موت الملك السبئي علهان نهفان مباشرة، واستمرت الحروب المتقطعة طوال ما يقارب 300 عام، كانت نهايتها وقوع اليمن تحت الحكم الحبشي لمرتين، ووفقًا للباحث السعيدي، فإن “الاتفاقية مع الأحباش تم نسفها على يد الملك شاعر أوتر بن علهان نهفان كما جاء في النقش Ir 12 الذي تحدث فيه القائد وافي أذرح، قائلًا إنه “أهدى إلمقه تمثالين ذهبيين حمدًا وشكرًا على صدور قرار سيده الملك شاعر أوتر القاضي بتعيينه قائدًا للقوات المرابطة في حدود حاشد أثناء الحرب مع الأحباش ومن معهم من قبائل السواهر وخولان”، ويذكر وافي أذرح أنه أقام التحصينات العسكرية على طول حدود حاشد، كما يتحدث عن صدور قرار يقضي بتوليه منصب قيادة فرقة خاصة من الجيش لمحاربة الأحباش، ويذكر المعارك والقتلى والأسرى”.

كما أنهى الملك شاعر أوتر “التحالف الذي أقامه الملك علهان مع ملك حضرموت، وانتهى بحرب شنها الملك شاعر أوتر ضد العزليط ملك حضرموت، وهذه الحادثة نقلها لنا النقش Ir 13 الذي يتحدث فيه القائد فارع الكوكباني قائلًا بأنه أهدى إلمقه تماثيل ذهبية من غنائم المعارك في شبوة، وقدمها حمدًا على سلامته في الحروب التي شنها سيده الملك شاعر أوتر على العزليط ملك حضرموت، وتحدث عن معارك دارت رحاها في الغيل وأرض قتبان ضد قبائل ردمان وأوسان، ويشكر الآلهة على الثقة التي نالها عندما صدر قرار بتعيينه قائدًا لحراسة قصر شقر الذي تقيم فيه سيدته “ملاك” أخت الملك شاعر أوتر، واستمر في حراسة الحصن 15 يومًا، ويذكر عودته بالسلامة مع سيده شاعر أوتر، ويشكر الآلهة على سلامته في كل المعارك والحروب”.

نقش معبد أوام 213: الغزو الحبشي

يقول الباحث الشرجبي إنه “في الفترة ما بين ٢٢٠ و٢٤٠م، وأثناء الانشغال بالحروب الداخلية، بخاصة الحروب بين الحميريين والسبئيين، بادر جدورة ملك الحبشة وأكسوم بإرسال حملة عسكرية بقيادة ابنه بيجة، لغزو اليمن، وكان جدورة قد وقع اتفاقية سلام مع الملك شاعر أوتر ملك سبأ وعاصمته صنعاء، الذي كان وجيشه يخوضون حروبًا ضارية ضد الحميريين وعاصمتهم ظفار”.

وقد اتجهت الحملة العسكرية للأحباش نحو مدينة ظفار عاصمة المملكة الحميرية، وذلك استنادًا لنقش معبد أوام 213، وهو نقش يعود تاريخ كتابته، بحسب الباحث الشرجبي، “تقريبًا إلى النصف الأول من القرن الثالث الميلادي، وهي فترة عاشت اليمن فيها الكثير من الحروب والصراعات بين حكام الممالك اليمنية سبأ وقتبان وحمير وحضرموت، ودخلت أطراف أخرى في تلك الحروب، كانت ترغب في بسط سيطرتها على اليمن، ومعروف أن الأحباش هم الأيدي التي تنفذ خطط حلفائهم الرومان”.

يقول الشرجبي: “لم يتجه الجيش الحبشي نحو الأراضي الخاضعة لمملكة سبأ، بل توجه نحو مدينة ظفار عاصمة المملكة الحميرية، والحميريون حينها كانوا في حرب شعواء مع السبئيين.. آملًا في القضاء على قوة كبيرة تقف في وجه أطماعه بالسيطرة على البلاد”.

الاتحاد ضد عدو خارجي

يؤكد الباحث الشرجبي أن اليمنيين في الماضي، واستنادًا لبعض النقوش المسندية القديمة، كنقش معبد أوام 213، عاشوا تجارب مثيرة للاهتمام، حيث اتحدوا في مواجهة عدو مشترك، وتنادوا من أنحاء شتى سبئيين وحميريين لإنقاذ عاصمة الحميريين ظفار من السقوط بيد الأحباش حلفاء ملك سبأ في صنعاء في معركة استمرت لثلاثة أيام فقط.

ووفقًا للباحث، يرصد نقش معبد أوام 213 أحداثًا فريدة لأحد اقيال سبأ وقادتها عندما استنفر مع المقاتلين من أبناء قبيلته للمشاركة مع قوات يمنية أتت من المعافر (تعز حاليًا) ومناطق أخرى، للدفاع عن عاصمة الحميريين خصوم مملكة سبأ، من حملة عسكرية للأحباش أتت بطلب من ملك سبأ نفسه، ومضت لإسقاط مدينة ظفار، وكان ذلك التحرك من القائد السبئي ضد رغبة ملكه.

ويعد النقش MaMB 213= ZI 66 = Ja 631 من النقوش الدينية والنقوش الحربية -التذكارية في الوقت نفسه، التي توثق لنا أحداثًا تاريخية في غاية الأهمية، بحسب الشرجبي.

المفهوم العام للنقش وفق الباحث: “يتحدث في هذا النقش قطبان أوكن المنتمي إلى بني ذي جرة أقيال قبيلة سمهرم يهولد قائلًا بأنه أهدى إلمقه ثهوان رب أوام تمثالين مذهبين حمدًا لما أعان عبده قطبان أوكن الجرتي وقبيلتهم سمهرم يهولد بقتل وإبادة وسحق وإذلال الكثير من الأعداء في حروبه مع الملوك والقبائل الذين أشعلوا الحروب ضد حاكمهم شاعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان، من البحر والبر، وحمدًا لما رافق حاكمهم شاعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان في تلك الحروب، فدمر وقتل وحصل على السبي والغنائم والحلي والكثير من القتلى في تلك الحملات العسكرية والمعارك، وحمدًا لما أعان عبده قطبان أوكن الجرتي عندما بعثه حاكمهم شاعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان نحو أرض الحبشة لمقابلة جدورة ملك الحبشة وأكسوم، وعادوا منها بالسلامة هو وكل مرافقيه، وعاد لحاكمهم شاعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان بالجواب الصادق من النجاشي الذي أرضى حاكمه وفي كل البعثات الأخرى في خدمة سيده شاعر أوتر، وحمدًا لما أعان إلمقه ثهوان رب أوام عبده قطبان أوكن الجرتي وقبيلتهم سمهرم يهولد عندما قاد قطبان أوكن الجرتي وقبيلتهم سمهرم يهولد حملة من مدينة نعض إلى مدينة ظفار تنفيذًا لأمر إلههم وحاميهم عثتر العزيز، وذلك عندما هاجم بيجة ولد النجاشي وجموع الأحباش مدينة ظفار، ونزلوا بالقرب من مدينة ظفار، فتوجه قطبان أوكن الجرتي نحو مدينة ظفار للمكان والميعاد المتفق عليه لنصب كمين للأحباش، فوصل ليلًا، لكن الجيش الحبشي انسحب من مواجهتهم وهربوا نحو جبل الن الواقع وسط المدينة، وعاد قطبان أوكن الجرتي وقبيلته لينضم مع العزيز ينوف يهصدق ملك سبأ وذي ريدان وقبائل ذي ريدان، فقتلوا وذبحوا الأحباش ودحروهم من وسط المدينة، وثالث يوم وصلت من ذمار طلائع القوات ومعهم قبائل ذي ريدان، فأغاروا ليلًا على معسكر الأحباش، وقتلوا منهم أربعمائة جندي بحد السيف.. وفي اليوم الثالث برز قطبان أوكن الجرتي وقبيلتهم سمهرم يهولد وتحاربوا مع الأحباش وجهًا لوجه، وكان معهم الرماة فرسان المعافر فقتلوا الأحباش بالمبارزة، وانسحب الأحباش إلى مخيمهم وخرج الأحباش من ظفار جوعى هاربين نحو معهرتن، وليستمر إلمقه ثهوان رب أوام بمنحه الحظوة ورضا حاكمهم لحيعة يرخم ملك سبأ وذي ريدان”.

هبة قومية لإنقاذ ظفار

يشير هذا النقش إلى طبيعة الصراعات بين الحكام السبئيين والحميريين ونزاعاتهم، وكيف أن كلًا منهم يحمل لقب ملك سبأ وذي ريدان في الفترة نفسها.

في توضيحاته للنقش يقول الباحث معمر الشرجبي، إن صاحب النقش هو القيل قطبان أوكن المنتمي إلى بني ذي جرة أقيال قبائل سماهر يهولد، ولفظ يهولد يقصد به القبيلة ذات العدد الكبير من الرجال، وكان قطبان من أقيال سبأ ويدين بولائه لحكام مملكة سبأ، وقد تولى منصب القيالة في زمن الملك شاعر أوتر بن علهان نهفان، ويبدو أنه استمر بهذا المنصب بعد وفاة شاعر أوتر وتولي الملك لحيعة يرخم الحكم في سبأ.

وبالنسبة للجانب الحميري، يقول الباحث الشرجبي، إن الملك العزيز ينوف يهصدق كان هو الحاكم، وحينها كانت ماتزال الحروب مشتعلة بين الحميريين والسبئيين، مضيفًا أن الموضوع المهم في النقش أنه، وعلى الرغم من حالة الحرب والخصومة بين الحميريين والسبئيين، نجد أن قطبان أوكن الذي يتبع ملوك سبأ، ترك الخصومة والحروب جانبًا، وعمل بما تمليه عليه قيم الرجولة والشرف، حيث جهز حملة عسكرية بقيادته تتكون من أبناء قبيلته لإنقاذ عاصمة أعدائه الحميريين عندما حاصرها الأحباش، وليس هذا فحسب، بل إن ذهابه إلى ظفار لم يكن تنفيذًا لأمر الملك السبئي لحيعة يرخم، بل كان بدافع الحمية، وقد استشار إلهه الحامي عثتر الذي شجعه وطمأنه بأن يحميه، فتوجه من مدينة نعض منطلقًا نحو ظفار، وبعد أن تم التنسيق مع القوات العسكرية الحميرية تم تحديد الهجوم على الأحباش في الليل، وتم التخطيط لعمل كمين محكم، وعند المواجهة لاذ الأحباش بالفرار، ولم يترك قطبان أرض المعركة، إذ قرر أن ينضم بقواته إلى جيش الملك الحميري العزيز ينوف يهصدق ملك سبأ وذي ريدان، وعندما تقدم الجيش اليمني الموحد بجناحيه الحميري والسبئي، للهجوم على الجيش الحبشي، هرب الأحباش للتحصن في أحد الجبال بقرب المدينة، وفي ذلك الوقت كانت الأخبار قد انتشرت بأن الجيش الحبشي يفرض حصارًا على عاصمة الحميريين، فهب أبناء اليمن من عدة مناطق من ذمار وذي ريدان والمعافر.

قوانين قديمة فيدرالية لحل النزاعات

في تاريخ اليمن القديم كانت هناك تشريعات وقوانين لتنظيم الملكية وشؤون التجارة وحل النزاعات، وكانت ذات طبيعة فيدرالية أو نمط الحكم المحلي، ومن تلك القوانين قانون الملك شمر يهرعش الذي خصصه لمنطقة مأرب ومحيطها.

لمراحل تاريخية ارتبط استقرار اليمن بنمط حكم شبيه بالحكم الفيدرالي في عصرنا، حيث كانت كثير من مناطق وأنحاء البلاد تتمتع بحكم محلي واسع الصلاحيات بلغة العصر الراهن.

في مدونته المختصة بالتاريخ على “فيسبوك”، يستعرض الباحث معمر الشرجبي أحد النقوش، وهو النقش الموسوم بـRES 3910، يشير إلى نمط من القوانين والتشريعات في اليمن القديم.

يقول الباحث في عرضه المنشور بتاريخ ١٩ أغسطس ٢٠١٥: “من الملاحظ أنه عندما يصدر أي قانون لم يكن يشمل كامل الأرض اليمنية عند التطبيق، فقد كانت هناك قوانين خاصة لكل مدينة أو منطقة، وتعتبر هي المرجعية القانونية لأهلها، فهذه القوانين كان يصدرها الملوك بهدف تنظيم مسائل الملكية العامة وشؤون التجارة وحل المنازعات.. وهذا يقودنا إلى الاستنتاج بأن اليمنيين القدماء هم أول من سنَّ ما يمكن تسميته بالقوانين الفيدرالية وقوانين الحكم المحلي”.

حل النزاعات في الموروث اليمني

في كتابه “الأساليب التقليدية لحل النزاعات في اليمن.. دراسة في التاريخ الاجتماعي”، للكاتب والباحث الأكاديمي الدكتور رشاد محمد العليمي، الرئيس الحالي لمجلس القيادة الرئاسي في اليمن، الممثل الشرعي للبلاد، يبرز “القواعد المشتركة بين شمال اليمن وجنوبه في مجال العادات والأعراف، بخاصة منها القواعد العرفية الخاصة بحل النزاعات، فقد اتضح أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بين المحافظات الشمالية والجنوبية والشرقية، وأن التراث الاجتماعي وقواعد حل النزاعات لها جذور مشتركة مهما اختلفت أو تباينت التسميات أو المفردات، وأن المصالح المشتركة في الانتقال والتجارة والرعي بين المناطق المختلفة في اليمن قبل ظهور الكيانات الحديثة في القرن العشرين، ووضع الحواجز والحدود، كانت أساسًا لوحدة ذلك التراث الاجتماعي، وإلا فما الذي يدعو قبائل الجوف إلى الاحتكام في حل النزاعات إلى الحكم بن عجاج في حضرموت، إذا لم يكن هناك تواصل ومصالح مشتركة، وانتقال مفتوح؟”.

ويضيف: “كما أن الهجرة الداخلية اليمنية من منطقة إلى أخرى كانت السمة العامة في حركة السكان تاريخيًا في اليمن، ولكن الخلافات والصراعات كانت انعكاسًا لمحاولة السيطرة والاستحواذ على السلطة والثروة أو فرض أفكار ومذاهب دينية بهدف السيطرة والحكم”.

تناولت دراسة الدكتور العليمي العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية التي أدت إلى استمرار العرف الخاص المتوارث من الماضي “بحل النزاعات في المجتمع اليمني تعايشًا مع الشريعة الإسلامية طوال الفترة التاريخية الممتدة لأكثر من ألف عام”.

ورغم الصراعات التي سادت في اليمن قديمًا، والحروب بين مختلف تكتلاته الجغرافية والسكانية، وطوال مختلف المراحل، ظلت هناك وعبر الزمن جذور وسمات مشتركة للموروث الاجتماعي المتصل بأعراف وقواعد حل النزاعات.

ويقول العليمي إن دراسته استهدفت أيضًا “الرد على كل الدعوات التي، للأسف، تتبناها بعض القيادات السياسية أو الثقافية، والتي تذهب إلى أن هناك اختلافًا شاملًا بين الشمال والجنوب، وهي دعوات غير واقعية تقابلها دعوات أخرى تعتبر أن هناك أصلًا وهناك فرعًا، وهي دعوات تحمل نفس التطرف والبعد عن الواقع الاجتماعي والثقافي للمجتمع بأبعاده التاريخية والثقافية”.

إجراءات إنهاء الحرب

في دراسته “العرف الحربي القبلي”، أبريل 2016، أعدت لبرنامج دعم الحوار الوطني، يقول الباحث عبدالناصر المودع في المقدمة إن “اليمن تعيش حاليًا حربًا واسعة لم تشهدها البلاد خلال تاريخها الحديث، أدت إلى خسائر كبيرة مادية وبشرية، وكان أكثر ضحاياها هم المدنيين”، ويرجع سبب ذلك من وجهة نظره إلى “عدم احترام المتحاربين للمرجعيات القانونية والأخلاقية للحرب، كالقانون الدولي الإنساني، أو الأعراف اليمنية المتوارثة المتعلقة بتنظيم الحرب”، وهي أعراف تأسست وتطورت في المناطق القبلية ذات الطابع الحربي، وفقًا للباحث.

وعلى العكس من بعض التصورات التي تظهرها كقبائل متناحرة همجية، يقول المودع: “لدى القبائل تراث ضخم من الأعراف التي تنظم الحرب وتخفف من شرورها، وأكثر المبادئ الأساسية التي تُستمد منها هذه الأعراف، المبدأ الذي يقوم على منع مكافأة الغالب، وهو المبدأ الذي يفقد الحرب طابعها المدمر، والذي نجده جليًا من خلال تحويل كل خسائر الطرف المهزوم البشرية والمادية، إلى ديون على الطرف المنتصر، وهو الأمر الذي يجعل الأطراف المتحاربة تتجنب إيذاء خصومها كي لا يتحول ذلك إلى عبء عليها”.

من هنا يرى الباحث المودع أهمية البحث والتعريف بهذه الأعراف، ونشرها من أجل الاستفادة منها في هذه الأوقات، والاسترشاد بالمبادئ العامة التي استيقت منها هذه الأعراف، للتخفيف من ويلات الحرب.

في النزاعات والحروب القبلية في المجتمع اليمني، يقول المودع إن “القبائل غير المشتركة في النزاع تجد أن من واجبها أن تتدخل في حل النزاع دون أية مصلحة مباشرة قبل بدء الحرب أو أثناءها”.

اقتصرت دراسة العرف الحربي القبلي على العرف الحربي الخاص بقبيلتي حاشد وبكيل، اللتين تعدان أكبر التجمعات القبلية، بحسب الباحث، إلى جانب أنهما مازالتا محافظتين على بنائهما القبلي نسبة إلى القبائل الأخرى.. أما بعد اندلاع الحرب هناك وسائل وإجراءات تتم لإيقاف الحرب بإنهائها أو تجميدها، ومنها: المفاوضات المباشرة، تدخل طرف ثالث، وهو الأكثر شيوعًا، التدخل الحكومي”.

مقالات مشابهة