المشاهد نت

الجارديان البريطانية … اليمن.. بلد ساحر ومعقد ويساء فهمه كثيرًا!

منطقة حراز - نقلا عن الجارديان البريطانية -

أوليفر هولمز/ الجارديان البريطانية
ترجمة: عبدالله قائد / المشاهد

على تلال صخرية على مشارف العاصمة اليمنية يوجد مبنى خرساني محصن مغطى بقفص أحمر صدئ، إنها السفارة البريطانية.
عند التكليف ببنائه في أوائل عام 2000، مع بداية “الحرب على الإرهاب”، دعا الأمر الذي قدمته الحكومة البريطانية للمهندسين المعماريين إلى تصميم من شأنه أن يكون بمثابة “مخبأ” آمن للغاية، وفي الوقت نفسه، يشجع الناس على “القدوم وتناول كوب من الشاي”. لقد كان، بعد كل ذلك، مبنى للدبلوماسية.
كانت المخاوف المتعلقة بالسلامة مبررة. وكانت سفارة لندن السابقة هوجمت في عام 2000، واستهدف دبلوماسيون غربيون مرارًا مذاك. إلا أنه مهما كان التوازن بين الترحيب والأمان، فإن النتيجة كانت واحدة: على مدى العقدين الماضيين، كان مبعوثو بريطانيا معزولين، وبالتالي لم يكونوا على اطلاع. والأهم من ذلك، جسد المبنى وجهة نظر منتشرة على نطاق واسع بين الحكومات الغربية في اليمن باعتبارها مشكلة أمنية أساسًا قبل كل شيء.
الآن، في عام 2024، تشارك المملكة المتحدة مباشرة في قتال في اليمن، وتقصف المسلحين الحوثيين كجزء من حملة تقودها الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن لندن وواشنطن لديهما معلومات محدودة حول ما يحدث على الأرض في اليمن، وليس لديهما فهم عميق لبلد معقد.
وظل الدبلوماسيون الغربيون محبوسين في سفاراتهم، وبموجب بروتوكولات أمنية مشددة منذ سنوات، ومحرومين من تجربة الأعداد الصغيرة نسبيًا من زوار شوارع صنعاء المرصوفة بالحجارة.
حتى السياح كانوا قادرين في كثير من الأحيان على السفر بحرية أكبر. على الرغم من أن السياحة الجماعية لم تظهر أبدًا في اليمن، إلا أن حفنة من الوكالات السياحية عرضت مغامرات خارج المسار إلى جبال حراز الخضراء، التي تشتهر بالقرى الحجرية المحصنة على طراز القلعة التي تتشبث بالجرف وتندمج معه، وتحيط بها محاصيل حبوب البن اليمنية “القهوة موكا”. كان السياح الذين لديهم نقود أكثر يسافرون إلى جزيرة سقطرى، المعروفة باسم غالاباغوس في المحيط الهندي، حيث لا يوجد ثلث نباتاتها في أي مكان آخر، بما في ذلك شجرة دم التنين (الأخوين)، التي سميت باسم عصارتها القرمزية.
لفترة من الوقت، اشتهرت اليمن على مدونات السفر بـ”سياحة الاختطاف”، حيث كانت القبائل المحلية تختطف متنزهًا أو مجموعة من راكبي الدراجات، وتطلب فدية، بشرط أن تبني الحكومة المركزية مدرسة جديدة، أو تصلح طريقًا متداعيًا. غير أن القصص عن كرم ضيافة القبائل، بما في ذلك استضافة الولائم والأعياد “للضيوف”، تعني أن بعض السياح لا سيما المغامرين قد يغامرون عمدًا بالدخول إلى التلال على أمل أن يتم اختطافهم.
وفي الوقت نفسه، كانت صنعاء ملاذًا سريًا للطلاب العرب، الذين سافروا من مراكز الدراسة الأكثر شيوعًا في القاهرة وعمان (ودمشق قبل الحرب الأهلية عام 2012)، بحثًا عن ثقافة ولغة أضعف قليلًا بسبب التأثير الغربي في بلدانهم. على طرف شبه الجزيرة العربية، حيث يعتقد أن اللغة العربية ظهرت لأول مرة، كانت اليمن معزولة جغرافيًا، ولاتزال اللغة المستخدمة هناك كلاسيكية بشكل مذهل. قد يكون النموذج المكافئ في الغرب فيما لو بقي هناك في جزء من جنوب أوروبا شكل من أشكال اللاتينية على قيد الحياة.
كان طلاب اللغة العربية القادمون من دول حول العالم يستأجرون غرفًا في مدينة صنعاء القديمة المسورة، وهي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، حيث ترتفع المباني التي يعود تاريخها إلى قرون، مبنية من الطين والطوب الأحمر، إلى ارتفاع سبعة طوابق. لاتزال ناطحات السحاب القديمة الصغيرة هذه، المزينة بأنماط هندسية ونوافذ زجاجية ملونة، قيد الاستخدام اليوم كمنازل خاصة. لايزال سكانها يستخدمون الحيل القديمة لهذه المنازل، حيث يعلقون أواني الماء في التجاويف لتبريدها بالهواء المتدفق بدلًا من الكهرباء. وعلى عكس الكثير من بقية أنحاء الشرق الأوسط، لاتزال الحمامات العامة قيد الاستخدام، ومن المعتاد رؤية رجال يرتدون مناشف ويحملون فرشاة أسنان وشفرات حلاقة يعبرون الشارع ليدلفوا من أبواب خشبية إلى الحمام.
في السوق، ترتدي النساء النقاب الأسود بالكامل على غرار ما هو الحال في المملكة العربية السعودية، أو النمط الأكثر محلية، مع لمسات حمراء وخضراء. يرتدي العديد من الرجال ثوبًا، ورداء طويلًا، غالبًا باللون الأبيض، وحزامًا سميكًا مزينًا بتخريم معدني بداخله سكين “جنبية”، مزخرف في الأمام والوسط، وله مقبض مصنوع تقليديًا من قرون الماشية.
سافر تيم ماكينتوش سميث، وهو مستعرب بريطاني، إلى صنعاء القديمة، في عام 1980، عندما كان في العشرينيات من عمره، وكان مفتونًا لدرجة أنه بقي هناك، وكان يشاهد أحيانًا في زيه اليمني الكامل.
لفترة من الوقت، تمكن بعض المراسلين الدوليين المستقلين من العيش والعمل في البلاد، وغالبًا ما كانوا يعملون لدى رؤساء تحرير يمنيين يديرون وسائل إخبارية باللغة الإنجليزية، مثل “يمن تايمز” و”يمن أوبزرفر”.
كان الرئيس الاستبدادي علي عبدالله صالح، الذي حكم منذ عام 1990 من خلال عقد الصفقات ودفع الرشاوى لزعماء القبائل في اليمن، على كرسي الحكم. وجرى اتهامه على نطاق واسع باللعب على تهديد التشدد الإسلامي في اليمن للحصول على المال والدعم من الولايات المتحدة وحلفائها.
وكان ستيفن سيش، سفير الولايات المتحدة في اليمن من 2007 إلى 2010، وصف صالح في وقت سابق بأنه “مناور غير عادي”، كان باستمرار “يدق ناقوس الخطر” بشأن تنظيم القاعدة.
كانت حكومة صالح تتسامح مع التقارير الإخبارية باللغة الإنجليزية، بخاصة وأن القصة الدولية الرئيسية في ذلك الوقت كانت عن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك أحد أعضائه، عمر فاروق عبدالمطلب، “مفجر الملابس الداخلية”، الذي حاول تفجير طائرة متجهة إلى ديترويت في يوم عيد الميلاد في عام 2009.
إلا أنه كان ذلك محبطًا لليمنيين، حيث كان ينظر إلى بلادهم بشكل متزايد من خلال عدسة التشدد، دولة دائمًا على وشك أن تصبح “أفغانستان التالية”.
بالتنسيق مع حكومة صالح، بدأ جورج دبليو بوش باستخدام الطائرات المسيرة لمهاجمة أهداف القاعدة في اليمن، وهي سياسة وسعها الرئيس باراك أوباما، وكثيرًا ما قتلت عائلات بأكملها خلال هذه العمليات. واصل دونالد ترامب وجو بايدن الهجمات بالطائرات المسيرة.
خلال أوائل عام 2010، كان الدبلوماسيون والملحقون العسكريون البريطانيون يخرجون من مجمعاتهم لعقد اجتماعات مع شخصيات عامة يمنية، والتي تعقد في غرف جلوس مزخرفة مع ضيوف يجلسون على الدواوين لساعات يتحدثون ويمضغون أوراق القات، وهو مخدر خفيف له قوة بمنزلة بين منزلتي القهوة والكوكايين. ولكن بعد أن حظرت المملكة المتحدة القات في عام 2014، اضطر الدبلوماسيون البريطانيون إلى التخلي عن جلسات المضغ، مما زاد من العزلة لأنفسهم عن الحياة اليمنية.
وبتركيزهم على تنظيم القاعدة، لم يولِ الغرب اهتمامًا كبيرًا للتمرد الحوثي الشيعي المتشدد الذي كان مستعرًا في شمال اليمن. غير أنه بعد الإطاحة بصالح كرئيس خلال احتجاجات الربيع العربي المؤيدة للديمقراطية في عام 2011، وإصابته بجروح خطيرة في هجوم بالقنابل على مقره الرئاسي، كان الحوثيون هم الذين استغلوا الحرب الأهلية التي تلت ذلك للاستيلاء على العاصمة في عام 2014.
وبعد مرور عام، أخلت المملكة المتحدة والولايات المتحدة سفارتيهما، تاركتين نفسيهما أكثر بعدًا. أجبرت الحرب الأهلية العديد من الصحفيين والأكاديميين اليمنيين على المغادرة. الدبلوماسيون الغربيون لم يعودوا. وأغلقت مدارس اللغة العربية، واختفت السياحة إلى حد كبير.
أطلق الرومان على اليمن اسم “العربية السعيدة”، لمؤنها الغنية من المر واللبان، بينما يدعي اليمنيون أن “ملكة سبأ التوراتية” هي في الواقع ملكة سبأ، وهي مملكة قديمة قامت قبل الإسلام في المنطقة. ومع ذلك، ففي العالم الناطق باللغة الإنجليزية، اليمن بلد يختزل في العناوين الرئيسية، والتي نادرًا ما تكون إيجابية. يقول اليمنيون في بعض الأعمار الذين يعيشون في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، في كثير من الأحيان، إن المثال الوحيد الذي يمكن للناس التفكير فيه عند ذكر كلمة «اليمن» هو حلقة من المسلسل التلفزيوني Friends، عندما يصعد تشاندلر بينغ من دون قصد على متن طائرة هناك، من المفترض أن الكتاب لم يتمكنوا من التفكير في أي مكان بعيد وغير معروف!
يفضل اليمنيون أن يعرف الناس بلدهم من خلال ثقافة الضيافة والتاريخ القديم والهندسة المعمارية وطعامه (مثل لحم الضأن الفحسة، المغطى بالحلبة والمطبوخ في وعاء حجري فوق لهب غاز يبلغ ارتفاعه قدمًا)، أو على الأقل التعرف على شعبه، بمن في ذلك الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان، والمعروفة باسم “أم الثورة” بعد أن ساعدت بالإطاحة بصالح خلال الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية عام 2011.
وقد كتبت الباحثة اليمنية ندوى الدوسري، وهي زميلة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، على نطاق واسع، عن إخفاقات السياسات الغربية تجاه اليمن، والتي تقول فيها إنه ينظر إليها “من خلال عدسة أمنية فحسب”!
كتبت ندوى الدوسري، بعد انتخاب بايدن في عام 2020، أن إدارته بحاجة في نهاية المطاف إلى تطوير سياسة حقيقية خاصة باليمن. وقالت: “يجب أن تبدأ هذه بفهم الديناميات المحلية للصراع في اليمن من خلال التحدث مباشرة إلى اليمنيين”.
بعد مرور أربع سنوات، بالتحديد بعد هجمات الحوثيين على ممرات الشحن، تقوم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بقصف اليمن بحماسة جديدة، في ظل رؤية ضعيفة، أو بمعلومات قليلة في الميدان حول ما يمكن تحقيقه وما لا يمكن تحقيقه، أو ما هو معرض لخطر العنف. يتخذ الدبلوماسيون الغربيون قرارات بعد سنوات من انقطاعهم عن معالم وروائح وسحر اليمن.

مقالات مشابهة