المشاهد نت

اليمن.. بلد الحروب والصدمات النفسية ” قصص عن المقاتلين في الجبهات”

المشاهد – معاذ الحيدري – خاص :
لم تترك الحرب الشرسة في اليمن أحداً من دون أثر بليغ في روحه أو جسده أو ماله، وقد يكون الموت أهون تلك الآثار، كما يقول بعض اليمنيين، على اعتبار أن من مات انتهى عذابه من لحظة مغادرة روحه إلى بارئها، ولكن من بقي وراءه ما زالت تحفر الحرب روحه بذكريات الفقدان أو في لملمة جروح الأحبة، أو أولئك الذين شردتهم الحرب في الشتات الكبير.
وضحايا الحرب في اليمن، ليسوا اولئك الذين سقطوا ضحايا بين قتلى وجرحى، وليسوا ايضا اولئك الذين صاروا ضمن قوائم المشردين او النازحين، بل ان هناك ضحايا اخرون ربما لم تتحدث عنهم الحرب حتى الان، وهم اولئك الذين صاروا مصابين بصدمات نفسية بالغة، وما اكثرهم اليوم في اليمن اليوم، بل ما أكثرها الاسباب التي تكالبت واجتمعت لتقود عشرات الالاف من الناس الى هذا المستنقع الخطير. خصوصا المقاتلين والمشاركين في جبهات القتال.
“المشاهد “يوثق قصص واقعية لم يتم التطرق من قبل
وخلال تتبع تفاصيل الواقع النفسي لشريحة المقاتلين، والافراد المشاركين في الحرب، نكشف عن قصص مؤلمة، قصص قد لا يصدقها البعض، لكنها تشير إلى واقع ومستقبل مليء بالأوجاع، الاوجاع التي تصيب جيل بأكمله بمقتل.
(ص. م. ق) طبيب نفساني في صنعاء، وهو يشرح لـ “المشاهد” ارتفاع الحالات النفسية في اليمن بشكل كبير في أوساط المدنيين، والنازحين الذين فروا من مناطق النزاع والصراع، يقول أن الحالات الواردة من ميادين القتال هي الأكثر ألما، ففي حين يقول هذا الطبيب بأن الاثار النفسية لهؤلاء المقاتلين هي من ستتضح بعد توقف الحرب، وستظهر بشكل دقيق، يقول أن هناك اصابات تحصل في الوقت الراهن وتصل الى بعض المستشفيات، وما يصل لا يمثل الا نسبة ضئيلة.
تزوج زوجة اخيه وهو حي
يتابع هذا الطبيب، ويقول، قبل أسابيع وصل الى المستشفى الذي يعمل فيه ويضم قسما خاصا بالأمراض النفسية، أحد الاشخاص مصابا بصدمة نفسية عميقة. وأثناء العلاج والنقاش مع أهل المريض، أتضح أن هذا المريض، هو أحد الذين كانوا مشاركين في الحرب، وهو من أبناء صعدة، وغادر للقتال مع جماعة الحوثي في عدن مطلع العام 2015، وبعد فترة قصيرة أنقطع التواصل بأهله، بعد تعرضه للاعتقال والسجن لدى الطرف الاخر.
مرت الايام والاسابيع، ولم تفلح كل محاولات معرفة مصيره، من قبل أهله، سوى أنهم سمعوا أنه قتل بغارة جوية مع بعض زملائه، ولأن معظم من يسقطون في ميادين القتال بغارات جوية، تتفحم جثثهم وأجسادهم، يدفنون دون معرفة هويتهم أحيانا، بما ذلك عدم توفر اجهزة الفحص للجثث ومعرفة هوية الاشخاص بالإضافة الى عدم اهتمام أطراف الحرب في ذلك. أمرا يجعل خبر التصديق عن ذهاب شخص سهلا ومعقولا لديهم.
مر عامان تقريبا، حتى يئس الأهل، فقرروا تزويج زوجته بأحد أخوانه، ومر عام ثالث، على أساس أن هذا الرجل قد رحل، ولم يكن يتوقع الاهل بأنه ذات يوما سيكتشفون أنه حيا وأنه حال الافراج عنه ستكون طريقه الاولى هي إليهم لا الى جبهات القتال.
أفرج عن الرجل، بعدها أتجه نحو منطقته الى صعدة، ولحظات شوق ومشاعر حنين تغمره، وأختار أن تكون زيارته لأهله مفاجأة. ولكنه لم يتوقع أن صدمة نفسية ثانية له في الانتظار، بعد الصدمة الاولى التي تعرض لها وتمثلت بالسجن والاعتقال الطويل.
وصل الرجل الى اهله، فتفاجأ الجميع بعودته وأصبح الجميع بصدمة بهذه العودة، لكن الصدمة الكبيرة كانت من نصيبه، لقد أتضح أن زوجته صارت زوجة لأخيه، بعد أن وصلت لهم معلومات بأنه لقى مصيره بغارة لطيران التحالف مع مجموعة من زملائه في الحرب.
من يومها يدخل الرجل طبقا للطبيب الذي شرح قصة المريض لـ “المشاهد” حالة نفسية صعبة، ويخضع للعلاج في إحدى مستشفيات صنعاء. وسط شعور بقهر بالغ يحيط بالأسرة، فلا النجاة ومعرفة الاهل مؤخرا بعدم موته مثلت فرحة، ولم تعد منية لهم، فلسان حالهم يقول: يا ليته كان ذهب بغارة التحالف ويا ليته لم يعد بهذه الطريقة.
هذه ما هي الا واحدة من مئات القصص التي طالت وستطول المقاتلين في قادم الأيام وفي المستقبل القريب والقادم.
مشاركة الافراد في جبهات القتال وممارستهم القتل.
تقول أستاذة قسم علم النفس، بجامعة صنعاء، انتظار سيف لـ “المشاهد”: “ما نشهده اليوم من صراع مسلح سياسي اقتصادي فكري وإعلامي، وايضا جوع وفقر ونزوح وتوقف للرواتب وحصار مستمر من البر والجو والبحر، يوجه ضربة قاتلة للمجتمع اليمني”.
وتضيف: “ضغوطات اليمنيين اليوم ليست بسيطة بل كبيرة وكبيرة، حرب نفسية من كل الاتجاهات ومن جميع نواحي الحياة يواجهها الفرد يوميا، بسبب النتائج المترتبة للحرب وتأثيرها على الصحة النفسية والعقلية للمدنيين وللمحاربين بداية من الصدمة النفسية التي سيختبرها المحارب عند قتل إنسان آخر ثم تبعات ما بعد الانتهاء من الحرب بالإضافة إلى خوف ورعب الأهالي المدنيين إثر أصوات الصواريخ والقذائف والتفجيرات، إلى الأثر المباشر نتيجة الخسائر البشرية والمادية، والشعور بالخوف وعدم الأمان، ترقب مستمر ناتج عن خوف التعرض للأذية أو الموت في أي لحظة، واضطرابات ما بعد صدمة الحرب التي يتعرض لها المدنيين والمحاربين وأخيرا عدم قدرة المقاتلين على التكيف مع حياتهم السابقة الطبيعية لا يؤثر عليهم فقط بل يؤثر على عائلاتهم وأحبتهم وجيرانهم وأصدقائهم والمجتمع”.
هكذا هي الحرب نتائجها سيئة على المدى القريب والبعيد تترك بصْمتها واضحة على الجميع، أطفال نساء ورجال، شباب وكبار في السن. لا ترحم أحدا ولا يمكنك أن تتجاهل ولا تتفاعل مع ما تسببه لمدينتك ومدرستك ومنزلك وحياتك جيرانك وأحبتك وذلك الجرح الذي ينزف في أعماق نفسك.
وفي حين يعاني بعض اليمنيين، من حالات صحية خطيرة، يقول الدكتور عبد الله أحمد الشرعبي، في حديثه لـ “المشاهد” أن “اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب الذي يؤدي إلى الانتحار، ستصبح من المشاكل النفسية والاجتماعية الأكثر شيوعا والأقل وضوحا، والأوسع انتشاراً بكثير في هذا المجتمع الممزق”.
ارتفاع متزايد
ولا توجد إحصاءات عن انتشار اضطراب ما بعد الصدمة في اليمن؛ إذ لا تزال مناقشة المشاكل النفسية من المحظورات هنا في اليمن، ولكن أحد المؤشرات ذات الصلة هو العدد المتزايد من المرضى الذين يدخلون بعض مستشفيات وأقسام الأمراض النفسية في بعض المدن اليمنية اضافة الى ملاحظة ارتفاع امراض نفسانيين يجوبون الشوارع وبعضهم يتم ابقائهم يصارعون المرض في منازلهم ومناطقهم اليمنية المختلفة.
يقول عبد الله أحمد الشرعبي، وهو طبيب أخصائي نفسي، ويعمل لدى أحد أقسام الامراض النفسية بصنعاء: “قبل الحرب، كنا نرى ما بين 7 و10 مرضى جدد يوميا، أما الآن، فإننا نستقبل عدداً أكبر يتراوح بين 20 و30 مريضا بعضهم مدنيين وبعضهم عائدين من جبهات القتال “.
وفي السياق نفسه، لا يشعر الشرعبي، بالقلق على هذا الجيل فحسب، بل على الجيل التالي أيضا. وأكد أن “اضطراب ما بعد الصدمة يؤثر على المقاتلين في المرحلة الأولى، ثم على الأجيال التالية،” مضيفا أن عدوانية المراهقين والأطفال ترتبط بحالة الفوضى السائدة في أعقاب الحرب”.
شهادات من الواقع
كثيرة هي التأكيدات على أن العائدين من جبهات القتال، يعودون وهم ليسوا كما كانوا في علاقاتهم مع أصدقائهم وفي علاقاتهم مع محيطهم المدني المحيط السابق. محيط بلا سلاح محيط بلا دم بلا جثث بلا قتل. يذهب أحد الصحفيين في حديثه عن زيارته لأحد أصدقائه المشاركين في جبهات القتال، وعن المشهد وعن صديقه الذي تغير يقول: “سمعت أنه عاد من جبهات القتال في الخطوط الامامية، كل من حدثني عنه قال أنه انعزل عن الناس، لم يعد يطيق الحديث مع أحد، نوبات من الغضب الحاد والعصبية المفرطة تنتابه دون سابق انذار، الشاب الوديع الحالم، صار متمرداً قاسي القلب، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها في معارك شرسة، سبق أن امتدح مرات كثيرة خلال جولات القتال ووصفه قادته بالشجاع والمقدام الذي لا يهاب الموت، قررت أن أزوره في منزله، دخلت إلى غرفته الصغيرة المظلمة، ووجدته جالساً لوحده يتطلع في سماء غرفته، التفت صوبي دون أن ينطق بكلمة، اقتربت منه، وجلست إلى جواره، أخبرته أنني أتيت لكي أسمعه، كنت مدركاً بأن في صدره كلام يريد البوح به، عله يرتاح، طالت فترة انتظاري وران الصمت بيننا طويلاً”.
ويتابع هذا المتحدث: “فكرت في الانسحاب بهدوء مثلما دخلت، اتجهت صوب الباب، وقبل أن افتحه، التفت نحوه وسألته هل أسرفت في القتل بلا داع. أدرت له ظهري خارجاً، فاستوقفني صوته المنهك، قتلت مثل كل مرة لكنني مع كل رصاصة قاتلة كنت أطلقها وأرى أمامي الجثة تسقط على الأرض، ومن حولي يصرخون الله أكبر، اتجمد في مكاني، كل قطعة في جسمي تتنابها برودة شديدة، من أصابته رصاصتي كانت روحه المحلقة في الفضاء تسألني عن مصير أسرته بعد رحيله؟ ينساب امامي مشهد أمه وأبيه وهم يبكون بعد موته، زوجته واطفاله ينتظرون وصول جثته ليلقوا عليها النظرة الأخيرة قبل الوداع، كلهم يرمقونني بنظراتهم النارية، ثم يبتسمون نعم يبتسمون، دفن وجهه بين راحتيه، وبدأ يجهش بالبكاء، قتلت جنوداً وارحتهم من عذاب يبدو أنني أصبت بعدواه الان، وأدركت مؤخراً أن التوغل في الدم يجردك من إنسانيتك، يسلخك عن ادميتك، وعندما يصحو ضميرك فجأة تموت في اليوم ألف مرة وتقرر حينها أن تعود للجبهات لأنك أدمنت رائحة الدم، في انتظار رصاصة الرحمة التي تنتزعك من حياة حتى الحيوانات إذا عاشت تفاصيلها ستدرك كم هو موحش عالم البشر”.
العودة إلى الحياة الطبيعية وعدم الاعتراف
ويرى الشرعبي أن معالجة الآثار الطويلة الأمد للصدمة النفسية ليست من أولويات الحكومات اليمنية المتتالية، ولا أحد يريد إطلاق حملات عامة. لذا، فمن الأسهل على المسؤولين في وزارة الصحة سرقة الموازنات.
يقول الشرعبي: “في المجتمع اليمني، من الصعب أن نعترف علنا بأننا نحتاج إلى دعم نفسي، خوفاً من التعرض لوصمة العار الاجتماعية”.
واوضح: “لن يدرك المقاتلين والافراد المشاركين في الحروب وجبهات القتال أن شيئا لم يكن على ما يرام، إلا عندما سيعودون الى بيوتهم، ونسبة كبيرة جدا من هؤلاء المقاتلين سيعانون من الضغط النفسي الذي يعقب الصدمة، وتتراوح أعراضه من الأرق إلى الاكتئاب، مرورا بنوبات القلق والهلوسة والعنف وإيذاء النفس”.
بحسب اخصائيين نفسانيين، فأن التكلفة النفسية للحرب لا يمكن إلا ان ترتفع. وأن القتل هو الأمر المحرم الأكثر رسوخا في النفس البشرية، فالقتال يغير الشخصية تماما. ويخلص هؤلاء الأخصائيين إلى أنه: عندما يعود الجندي من المعركة، لا يمكن التوقع بعودته إلى حياة طبيعية وسعيدة، دماغه ليس قادرا على ذلك.
عملية إعادة الدمج المفترضة
تذهب انتظار سيف، أستاذة علم نفس، في حديثها لـ “المشاهد”، بالقول إنه: “مع بدء تطبيق اتفاقية السلام لأي حرب يبدأ المقاتلون السابقون والذين شاركوا في جبهات الحرب المختلفة بالعودة إلى منازلهم وأسرهم، حيث يجدون أنفسهم وقد أصبحوا بلا عملٍ أو مصدرٍ لكسب الرزق، فقد خسروا سلاحهم الذي كان يشكل مصدراً للقوة والسلطة، كما فقدوا رصيدهم المتمثل في شبكة العلاقات الاجتماعية التي بنوها إبان الحرب”.
ومن هذا المنطلق تقول، أستاذة علم النفس أنه، لابد ما يكون هناك تأهيل وبرامج خاصة بإعادة دمجهم في المجتمع، وفي حال لم تتم إعادة تأهيل هؤلاء المقاتلين ودمجهم في حياة مدنية طبيعية بأسرع وقت ممكن، فقد يودي بهم شعورهم المتصاعد بالتهميش والعوز، وخاصة فيما لو لمسوا عدم تقبّل المجتمع لاحتضانهم، إلى عودتهم لحمل السلاح مما يشكل تهديداً حقيقياً للسلم الأهلي والأمن المجتمعي”. كما أن هناك مقاتلين حملوا السلاح تحت الإكراه أو بسبب العوز والحاجة المادية، هذا بالإضافة إلى المقاتلين الجرحى والمصابين بالإعاقات الجسدية المختلفة.
لكن الحاصل في اليمن، هو أن اعادة التأهيل لهؤلاء المقاتلين غير متوفرة، ولم يحدث أنه بعد الحروب السابقة جرت مثل هذه البرامج وتمت استيعاب هذا الجيل، ما يجعلهم في حالات نفسية وصدمات صعبة. وما يجعلهم تواقون للحرب والعنف لا للسلام. وهذه قضية لها أبعاد كبيرة وخطيرة.
اليمن بلد الحروب والصدمات النفسية
منذ سنوات طويلة يعيش اليمنيون، صراعات مختلفة لها أبعاد نفسية وثقافية وفكرية عديدة، في ظل فوضى عارمة نتيجة غياب الحكم، والدولة التي تفرض النظام والقانون.
واليمن، بلد يواجه الحرب وتبعاتها من أزمات وانقسامات ونزاع سياسي مسلح على السلطة. حيث شهد اليمن عددا لا يحصى من الحروب على مر التاريخ، واتضح أن السلام لا يوجد حقا. الفترات التي ينظر إليها على أنها سلمية، وسلام هي في الواقع فترات التحضير للحرب في وقت لاحق. تتكرر الحروب وتتشابه خسائر الشعوب، منها المادي، والبشري، والحضاري والثقافي، لكن مع تقدم العلم خاصة في الطب النفسي والعلاج النفسي بدأ العالم مؤخرا يلاحظ ويسجل الآثار النفسية التي تتركها الحروب على المجتمعات الإنسانية. إلا أن اليمن ما زال خارج هذا الادراك وخارج هذا المربع. ما يجعله مهددا حقا بأزمات نفسية خطيرة في المستقبل.

مقالات مشابهة