المشاهد نت

ملامح مدينة آيلةٌ للاندثار

رسم تقريبي للباب الكبير، أحد المعالم الأثرية لمدينة تعز-تصميم جميل الأبيض

تعز – محمد علي محروس

82 سنة مضت من عمره بين أروقة المدينة التي أحبّها حد الثمالة، 20 سنة منها فقط عايشها وهي بطرازها الفريد، وذلك كل ما علِق في ذاكرة علي عبيد، أحد سكان المدينة القديمة بتعز.

كل صباح يتخذ عبيد مكانًا له علاقة بذكرياته الممتدة لأكثر من نصف قرن، وهناك يحسو فنجان بنّه المفضل، الذي لا يخلو من نكهة الأمس، وحنين المفارق لما تراكم طوال عمره، إنها سنوات لا تُنسى، كل ما حدث اليوم أساء لأولئك الذين أرادوا “عدينة” -وهو الاسم القديم للمدينة القديمة- أن تبدو كما هي عليه اليوم، لا ملامح لها، مستباحة بالبناء الحديث والعشوائية المفرطة، حسب وصفه.

لكل دار 3 بساتين ملحقة به، وكل شخص معني بتشكيل داره كما يريد، لقد بنوها كما تقتضي رغبتهم، ولحمايتهم من تقلّبات الطقس، وليشعروا بأنهم في المكان اللائق بزمانهم. هكذا كانت مباني المدينة القديمة دورًا واسعة البناء، شاسعة المساحة، تتنقل عبر فناياتها بأريحية تامة.

بأسى يعبّر عبيد عن حنينه لتلك الأيام الخوالي، ويروي لـ”المشاهد” غصة الخمسينيات من القرن الماضي، ذلك العقد الذي فتح الباب على مصراعيه للبناء الحديث، الذي يصفه بأنه اقتحم المدينة، وهشّم صورتها البديعة، حتى إنك لا تكاد تجد بيتًا بعمارته القديمة وأنت تحلّق بناظريك في شوارعها وأزقتها!

وإن لم تخنه ذاكرته، كما يقول، فسنة 1954 كانت فاتحة سنوات الاجتياح الحضري الحديث للمدينة القديمة، ومن حينها طُويت سنوات ذكرياته الـ20 المملوءة بالشجن لكل ما حوته المدينة القديمة من دور وأبواب وقباب وبساتين.

مدينة تفقد ماضيها

ملامح مدينة آيلةٌ للاندثار
رسم تقريبي لقلعة السراجية- بريشة جميل الأبيض

تعد مدينة تعز مدينة جديدة قياسًا بعمر غيرها من المدن اليمنية، فقد ظهرت نواة وجودها ممثلة بـ”حصن تَعِز”، في أوائل عهد الدولة الصليحية في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وعندما قدم الأيوبيون إلى اليمن في القرن السادس وبداية السابع الهجري، كانت قد تشكلت حول الحصن 3 أحياء مثلت نواة للمدينة، وهي “ذِي هُزَيْم، والمَغْرَبَة، وذِي عُدَيْنَة”، وقد ازدهرت هذه الأحياء وتوسع العمران فيها في عصر دولة بني رسول، وأضيف إليها مدينة ثَعَبَات وحي المُجَلِّيَة وحي الجَهْمَلِيَّة، والأحياء الثلاثة هي الأخرى تصارع من أجل الحفاظ على طرازها القديم.

ومنذ ذلك الحين مرّت المدينة القديمة في تعز بتغيرات عدة على مستوى تركيبتها السكانية، مما أدى إلى تغييرات جذرية في عمليات الإسكان الداخلي والبناء الحضري الحديث، وما ترتب على ذلك من تهميش غير مبرر للطراز المعماري المستوحى من البيئة اليمنية، ومن احتياج الإنسان اليمني بنفسه، وهو ما يعتبره الفنان التشكيلي وأحد سكان المدينة القديمة، جميل الأبيض، موضوعًا لا يحتمل التأجيل.

الحرب التي نشبت مطلع عام 2015، حالت دون أن يكمل الأبيض مهمة كلفته بها السلطة المحلية حينها بمسح كل ما يحتاج لإعادة الترميم في المدينة، لكن “اليوم هناك الكثير من الأماكن الأثرية والدور القديمة تتساقط أمام أعيننا، وتتحول إلى خراب، ومناداتنا للسلطة المحلية لتدارك الأمر وحماية ما تبقى، لم يستجب لها أحد”، كما يقول.

محاولات الأبيض لحماية ما تبقّى من دور وقباب وأماكن توثق العمر التليد لمدينته، باءت بالفشل، مثيرة للإحباط واليأس معًا؛ فالرجل عمل على تصاميم تعيد الاعتبار للمدينة القديمة، وتحفظ شيئًا من بريقها المصادر، وفق تأكيده.

إقرأ أيضاً  القيود الأسرية تمنع الفتيات من تحقيق أحلامهن

“ما يحدث هو تغيير لشكل المدينة”

ملامح مدينة آيلةٌ للاندثار
44 دارا قي مدينة تعز بحاجة لإعادة الترميم، ومنها ما يحتاج لإعادة بناء بعد أن تعرّضت أجزاء منها للانهيار-تصوير محمد محروس

خلافًا للمدن القديمة المماثلة في اليمن، تعرضت تعز لاكتساح حضري حديث غير مبرر، وكأن الأمر لا يعني الجهات ذات العلاقة بالآثار في المحافظة، حتى إن من يتجول في أزقتها لم يعد يدرك حقيقتها لكثرة البناء الحديث الآخذ في التزايد بشكل دائم.

بألم يتحدث الباحث والموثق التاريخي، فهد الظرافي، عن مشاهداته المتكررة للمدينة القديمة، وكم أنها تغيّرت كليًا مقارنة بالأرشيف الذي يحتفظ به لمراحل عدة من تاريخ تعز.

الظرافي يرى أن المسؤولية مشتركة، فملاك المنازل من الأسر القديمة بعضها تركت منازلها دون اهتمام يُذكر، واستقرت في مدن أخرى، وأسر لم تستطع البقاء فيها كونها لا تملك القدرة على الترميم، واختارت السكن في منزل بالإيجار، يُضاف إلى ذلك انعدام المسؤولية الحكومية تجاه المدينة القديمة بكل تفاصيلها، من دور وبيوت وقباب ومساجد، وحتى الحمامات القديمة، كل هذه آثار، ومن الأهمية بمكان حمايتها وترميمها والحفاظ عليها كإرث للأجيال القادمة، بحسب الظرافي.

ما يحدث اليوم هو تغيير لشكل المدينة القديمة، وطمس لهويتها ومعالمها، يترك انطباعًا مغايرًا للصورة الذهنية المرسومة عن المدينة، ويصيب زائريها بالغرابة؛ إذ إن ما يقرؤونه عنها لم يعد موجودًا في ملامحها على أرض الواقع، وما بقي منها يكاد يندثر، وفق ما يقوله الباحث الظرافي لـ”المشاهد”.

محاولات رسمية خجولة

ملامح مدينة آيلةٌ للاندثار

في مسح أولي أجرته الهيئة العامة للآثار والمتاحف بمحافظة تعز، عام 2019، توصلت من خلاله إلى أن عشرات الدور والمنازل والقباب والمساجد، وحتى الأبواب في المدينة القديمة، بحاجة لإعادة الترميم، ومنها ما يحتاج لإعادة بنائه كما كان سابقًا بعد أن تعرّضت أجزاء منه للانهيار. مدير الآثار بالهيئة المختص أحمد جسار، تحدّث لـ”المشاهد” عن تحديات عدة تواجهها الهيئة في الظروف الراهنة، تتعلق بصرف النظر عن حماية الآثار من الجهات ذات العلاقة، حتى إن الحديث عن ترميمها وتأهيلها يعد شأنًا لا يخصها “وهو ما دفعنا للبحث عن بدائل للحاق بما تبقّى من آثار تعز، بما في ذلك المدينة القديمة”، يقول جسار.

ويضيف: “للأسف نحن نعمل بما هو متاح، لا يتوقف سعينا من أجل الحفاظ على الأعيان الأثرية في المحافظة، ودون شك تأثر عملنا كثيرًا بالوضع الحالي، فالحرب تسببت في انهيار كلي للمنظومة الأثرية في تعز. نحن في مرحلة استرداد النَّفَس، فالمتحف الوطني تعرّض للقصف، وأُحرقت المكتبة التراثية، وقصر صالة يكاد ينهار، وقلعة القاهرة لم تكن بمنأى عن الحرب، حتى أحياء المدينة القديمة رغم ما تعانيه هي الأخرى لم تسلم وطالتها يد الصراع الحاصل، ما نحاول القيام به هو نوع من التشخيص الأولي، ونأمل أن يكون هناك توجّه فاعل للحفاظ على ما تبقى من إرثنا”.

في ظل المتغيرات الراهنة، يبقى فعل أي شيء لمنع دار أخرى من الانهيار، جميلًا أُسدي للمستقبل، إذ الأجيال القادمة تستحق أن تلحق شيئًا من أثر الأجداد وإرث اليمنيين الذي لا نتمنى له أن يندثر.

مقالات مشابهة