المشاهد نت

انتصار السري في معارك غير مرئية

محمد عبد الوكيل جازم

أتذكر أني دخلت مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء، في الـ10 صباحاً تقريباً، وحين اقتربت من المكتبة قال لي العامل فيها قبل ساعة دخلت المكتبة فتاة؛ وأول شيء طلبته مجموعاتك القصصية. قلت: “تحياتي لها ولك.. شكراً”! وربما تبادر إلى ذهني أن أتساءل من هي؟ وقد أكون سمعت جواباً افتراضياً. لا أتذكر! دخلت إلى قاعة المطالعة فرأيت فتاه ملثمة ومنهمكة في القراءة.. تعارفنا.. قالت: أنا انتصار السري. وفي لقاء آخر بدأت تعرض عليّ أولى كتاباتها في القصة القصيرة، وكنت أقرأ ما تخطه أناملها بجدية مضاعفة، وألقي عليها ببعض الملاحظات؛ فتتقبل بصدر رحب، وتأخذ برأيي، فتشجعت أكثر، وتشجعت هي بعرض ما تكتبه من مسودات قبل تبييضها.وفي كل مرة كنت ألحظ في انتصار موهبة لا تقارن، وإصراراً لم أعهده في مثيلاتها؛ فقد كان لي تجربة مريرة مع الفتيات؛ إذ كلما حاولت الواحدة منهن الكتابة، تركتها إلى دائرة اليأس.. اليأس من جدوى الكتابة في وطن يبدو كثيراً أنه طارد للمواهب، وربما يرحلن إلى دائرة الزواج أو التضييق الأسري والاجتماعي، ولم تتبقَّ إلا القادرات على المثابرة.الغوص في بحور الأدبأدركت حجم موهبة انتصار منذ أول قصة قرأتها ونشرتها، ولكنني لم أكن أتخيل أنها تمتلك كل هذا الإصرار على النجاح. وبقينا نتناقش في ما تكتبه وما أكتبه، إلى أن اكتملت مجموعتها الأولى التي سمتها “الرقص على سيمفونية الألم”. وأتذكر أنني قلت لها سميها “الرقص.. أو مجموعة رقصة!”. وعلى الرغم من أنها شكرتني، إلا أنها فضلت عنوانها، ليدل على بصمتها هي كما كانت في كل ما تكتبه.بعد أن قرأت لها الرقص.. قرأت المحرقة، وها أنا اليوم أقرأ مجموعتها القصصية الثالثة “لحرب واحدة”، الصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، عام 2016م.

ولازالت الجراب تحمل الكثير من المحار والجواهر.تضمنت المجموعة التي احتوت على 82 صفحة من القطع المتوسط، 15 نصاً مسبوكاً بعناية.لا أكتب اليوم عن انتصار الأخت والصديقة والهاوية للكلمة الإبداعية، وإنما عن انتصار المثابرة والشجاعة والعاشقة لروح الجمال.. انتصار الأكثر قدرة على النجاح والمكابدة.. انتصار القارئة والكاتبة وقارضة الروايات والقصص … انتصار المحارِبة والمُحارَبة التي خلقت بكامل موهبتها، لا لتقول شيئاً سوى هذه الكتابة التي اختلطت في دمها ولحمها.تقول في حوار أجرته معها مجلة “النجوم”: “أنا تخصصي رياضيات، لكن روح الأدب جعلتني أغوص في بحورها؛ فكان هو الطريق الذي من خلاله سلكت درب الأدب..”، وهو ما يعني أن انتصار تهتم بروح الكلمة وروح السرد. وكما تختصر اللوحات التشكيلية مفردات العالم الحكائي؛ فإننا نجد أن ثمة قصصاً قصيرة تختصر عالماً روائياً صاخباً، فلوحة مثل لوحة الصرخة لبيكاسو، قالت الكثير عن الحرب الأهلية الإسبانية وويلاتها، ولعل شهرتها تتجاور مع رواية دون كيخوته للإسباني ثيرفانتس، وكذلك الكثير من اللوحات

ولعل ما راق لي في مجموعة اللوحات التي خطتها أنامل انتصار في مجموعة “لحرب واحدة”، هو التركيز على الدلالة الروائية في المجموعة، إذ إن كل “لوحة/قصة/رواية” تحمل في طيّاتها سردية كبرى.

العالمية، منها على سبيل المثال العشاء الأخير لدافنشي، التي أبدع على إثرها دان براون رائعته “شيفرة دافنتشي”.ولعل ما راق لي في مجموعة اللوحات التي خطتها أنامل انتصار في مجموعة “لحرب واحدة”، هو التركيز على الدلالة الروائية في المجموعة، إذ إن كل “لوحة/قصة/رواية” تحمل في طيّاتها سردية كبرى. كيف يمكننا قراءة “الجملة الروائية” في قصة اختراق، وهي أولى قصص المجموعة؟ توضح القصة/ اللوحة/ الرواية” فكرة الاختراقات التي يسببها جهل مستخدمي الإنترنت، فيقعون فرائس سهلة بين يدي قطاع الطرق غير المرئيين. تبدأ “القصة/ اللوحة/ الرواية” على شكل حوار يدور بين أحد قراصنة الشبكة العنكبوتية وفتاة.القصة ليست فكرة مقتضبةيستدرج القرصان الفتاة إلى حلبة المصارعة الكلامية، وبعد أن يستولي على كل مدخراتها من الأسرار التي احتواها حاسوبها المحمول، يهددها بالفضيحة إذا لم تستسلم. القصة ليست فكرة مقتضبة، إنها فكرة روائية بامتياز، وتقول الكثير، فهي لوحة وملحمة نستطيع تطويرها لتكون رواية، فالنهاية أقفلتها القاصة، لكن القارئ يستطيع فتحها لتصبح رواية؛ أو فصلاً من رواية لا ينقصها سوى التمهيد ورسم الشخصيات بدقة، ثم تحديد الزمكنة، وتسليط الضوء على الصراع، وبالتالي استثمار النهاية المفتوحة لتكون واقعاً يجمع بين الرؤية الحديثة والخيال.وهي أيضاً فكرة أولى، بل خامة رئيسية لكاتب السيناريو، يستطيع تحويل هذا العمل إلى حلقات درامية مشوقة.قصة “قهوة مرة” هي -أيضاً- رواية جديدة؛ أو فصل آخر من الرواية التي زعمتها آنفاً، فبطل القصة الذي كان ينتظر حبيبته، هو -أيضاً- لم يشاهدها؛ لكنه سمح لخياله أن يفتش عنها في الأمكنة الشهيرة بباريس ومحطاتها، على الرغم من أن هناك امرأة في الواقع تحبه، ولكن عنف الخيال يستدعيه، فتتحول تلك المرأة الحبيبة في المطار حين وصولها، إلى اكتشاف غير متوقع؛ فبعد أن كانت امرأة لم تعد سوى رجل إرهابي أراد التسلل إلى بلد آخر سيمارس فيه العديد من التفجيرات والشغب. هذه الأحداث الجسيمة في قصة لوحية، هو ما دفعني إلى نشدان تحويلها من سرد كامن إلى سرد مطلق، لأنه مثخن بالممكنات؛ فالنص هو -أيضاً- علامة تتقاطع فيه خطوط التفاعل، وهكذا كما يقال “كل دال يشير إلى دال آخر”.وقصة “صورة” تتحدث عن شاب يحب فتاة اختفت في طفولته، لكنه لم يستطع أن ينساها، ليس ذلك فحسب، وإنما يخسر كل الفتيات اللواتي عرفنه، لأنه لا يرى سوى صورتها، لكن الفتاة التي اقتربت منه، أحب عيونها، وحين زارته شاهدت صورة حبيبة الطفولة؛ التي لم تكن سوى صورتها. النص يدين المجتمع أيضاً.نص “القطط المتشردة” يحتمل هذه

إقرأ أيضاً  دور النساء في تحسين جودة الدراما اليمنية

الحرب كثيراً، ليس هناك كما يبدو من العنوان أي ملامح عريضة للحرب، وهنا تكمن تقنية العنوان؛ فثمة حروب ومعارك غير مرئية في صراع الإنسان مع أخيه الإنسان، ولكن شعرية العنوان تقول الكثير، كأنه يتضمن أمنية أليس من الصواب أن نختصر حروبنا العبثية في معركة الحياة بمعركة واحدة؟

الإمكانية، وكذلك بقية القصص التي لشدة تكثيفها وانفتاحها، تختار القاصة لها مفردة واحدة مثل: حياة، عابرون، الموكب، دخلة، قفص، سنارة، والضريح؛ خصوصاً إذا عرفنا أن البنيوية تذهب للاعتقاد بأن الوحدات الفردية في أي نظام ليس لها معنى إلا بفضل علاقاتها ببعضها بعضاً، وأن “المحور الأفقي هو أرضية المشكلة العمودية”.معارك غير مرئيةقصة “وليمة” تتحدث عن دجاجة مشوية تنظر إلى شاب وفتاة في زاوية المطعم، فالفتاة تشبه الدجاجة التي تنتظر من سيأكلها، وبعد أن يأكلها الرجل سيأتي دور القطط، لأنها أصبحت مباحة بشكل أو بآخر… إن هذه الاستراتيجية في استخدام شفرة واحدة في معظم قصص المجموعة، تتكثف بعمق في تقنية العنونة.. لا ترد مفردة الحرب كثيراً، ليس هناك كما يبدو من العنوان أي ملامح عريضة للحرب، وهنا تكمن تقنية العنوان؛ فثمة حروب ومعارك غير مرئية في صراع الإنسان مع أخيه الإنسان، ولكن شعرية العنوان تقول الكثير، كأنه يتضمن أمنية أليس من الصواب أن نختصر حروبنا العبثية في معركة الحياة بمعركة واحدة؟ ثم لماذا الحرب..؟ أليس من حق الإنسان أن يحيا حياة خالية من الحروب؟ وعلى كل حال، فإن ما يقوله شتراوس يقترب من الحقيقة: “ليس بمقدور التحليل النحوي لقصيدة أن يعطينا أكثر من نحو قصيدة”.

مقالات مشابهة