المشاهد نت

نازحون.. في مُربع الخطر يرون لـ”المشاهد” يومياتهم المخيفة !!

نازحون غرب مدينة تعز

المشاهد- آية خالد-تعز -خاص :

 

كلما زادت في محافظة تعز حِدَّة المواجهات، وتوسعت رقعتها، كلما زاد أعداد الفارين من جحيمها، فيما تأخذ عملية نزوحهم أشكالاً مُختلفة، وفي الوقت الذي نزح فيه أغلب المُتضررين إلى قراهم، أو إلى مدن أخرى، أشهرها مدينتي إب وصنعاء، وكذلك الحوبان، فضل البعض النزوح في إطار المدينة المنكوبة، من حارة لحارة، أو حتى داخل الحارة الواحدة، التقرير التالي يغوص في تفاصيل هذه الجزئية، ويكشف حقائق كانت غائبة.

يا فرحة ما تمت

قضى فتحي عبدالرحمن «20» عاماً في بيت للإيجار، يعمل مُدرساً، ويعول زوجة وأربعة أبناء، توفق قبل ثلاث سنوات من إتمام بناء منزل شعبي بالقرب من مطار تعز القديم، إحدى عشر شهراً فقط، هي المُدة الزمنية التي قضاها فيه، «يا فرحة ما تمت»، قالها مُتحسراً، ثم مضى مُتحدثاً عن إنكسار حُلمه: «عانيت كثيراً، وكافحت من أجل التحرر من جحيم الإيجار، وحين تحقق حلمي، أتى أعداء الحياة ـ يقصد الحوثيين ـ وأعادوني إلى نقطة البداية».

أجتمعت على «فتحي» هذه المرة مُصيبتان، «الحرب»، و«الإيجار»، يعاني كغيرة من تأخر صرف المُرتبات، ومن عدم إهتمام المُنظمات الإنسانية به وأمثاله، قائلاً: «سلتان غذائيتان هي جميع ما وصلني من منظمات الإغاثة، غير ذلك ما فيش»، لافتاً أن راصدي تلك المُنظمات غالباً ما يطرقون بابه، إلا أنهم لا يعتبرونه نازحا.

وعن عدم نزوحه إلى خارج المدينة، قال «فتحي»: «استأجرت بيت في “بير باشا”، بالقرب من منزلي الجديد، الذي أذهب لتفقده بين الفينة والأخرى، صحيح أن القصف لم يطاله حتى اللحظة، إلا أني أخاف أن تطول الحرب، ويصبح بسببها أثراً بعد عين».

وضاع شقاء العُمر!!

على خلاف «فتحي»، ثمة نازحون أخرون فقدوا منازلهم، ضاع أمل عودتهم، وضاع شقاء عمرهم بلمح البصر، عادل المجاهد، أحد هؤلاء، تعرضت عمارته في «حي الحصب» لقصف الطيران، والسبب، تمركز «الحوثيين» فيها، كان قبل ذلك قد نزح إلى منزل أخيه في «المدينة القديمة»، يقول مُستذكراً: «هذه العمارة كانت ثمرة ثمان سنوات شقاء وغربة، وبعد أن أتممت بنائها سكنت بشقة، وأجرت باقي الشقق مع الدكاكين، واكتفيت بذلك كدخل شهري».

يتسأل «عادل» بحرقة: «من يعوضني عن خسارتي، وهل هناك آلية لتعويض متضرري الحرب؟»، ثم أجاب: «لا أعتقد!»، وحين سألناه عن حياته كنازح، أجاب بحرقه: «مرارة النزوح لا تعني لي شيئاً، مقابل فقداني لشقاء عمري».

إصرار على البقاء

بإطالة أمد الحرب، تزاد معاناة النازحين، قلة منهم تعايشوا مع الوضع، رضوا بالنصيب والمقدر، وبحثوا عن مصادر دخل تقييهم مذلة السؤال، سيف عبدالواحد، أحدهم، أضطر لمغادرة منزله في منطقة «ثعبات»، إلى منزلٍ آخر في ذات المنطقة، هو حد وصفه أكثر أمناً، صحيح أنه خسر بقالته مصدر رزقه، إلا أنه أسس بقالة أخرى في الجهة الآمنة التي أنتقل إليها.

يقول «سيف»: «تعرض منزلي للقصف، فاضطررت للانتقال لمنزل أحد الأقارب، سبق ونزح إلى القرية، أعتدت وأسرتي العيش على أصوات القذائف، واستمريت في تجارتي، ولم أخسر زبائني الذين أصروا مثلي على البقاء»، وحين سألناه عن معاناته كنازح، قال أنه لا يعتبر نفسه نازحا.

قنص

في «وادي غراب» تعرض غانم محمد للقنص، أضطر وأسرته لمغادرة منزله، التقيته بعد نزوحه بـ «20» يوم، ولا تزال آثار القنص على قدمه، وآلام الولادة بادية على وجه زوجته، التي تحدثت بشيء من التفصيل عن ذلك اليوم، قائلة: «يوم ما قنص زوجي، ما لقيت حد بالحارة يساعدني، كلهم خائفين من الحوثة، حملته على كتفي لعند أقرب نقطة مقاومة، وهم ساعدوني وأسعفوه معي، الله يحفظهم».

إقرأ أيضاً  الإصابة بالسرطان في ظل الحرب

أستقر «غانم» وأولاده الخمسة في غرفة داخل عمارة خاصة بالنازحين، وفي اليوم التالي ولدت زوجته، فزادت معاناتهم سواءً، تقول الزوجة: «جلست بنتي المولودة يومين ملفوفة بمنشفة.. ما معيش ثياب ولا شيء.. نزحنا بأرواحنا فقط».

أمل محمد، تعرفت عليها في إحدى الباصات، قالت أنها كانت تقطن في «حي الكمب»، وأن ظروفهم كانت متيسرة، وأن زوجها قتل العام الماضي قنصاً، على يد أحد الحوثيين، وأنها اضطرت وأولادها على النزوح إلى «حي الشماسي»، استأجرت بيت بـ «30,000» ريال، وعليها حتى اللحظة متأخرات لخمسة أشهر.

التقيتها عصراً، كانت تبحث عن بيت أحد فاعلي الخير، ابنتها مصابة بالتهابات بالدم، وهي بحاجة ماسة لقيمة العلاج الذي لا يتجاوز الـ «5,000» ريال، كانت تتكلم على استحياء، وصارحتني أنها وأطفالها بدون أكل من ظهر اليوم الأول.

ألم.. وأمل

يونس مجاهد، أب لـ «7» أطفال، ثلاثة منهم قتلوا في «مارس» من العام الفائت، وأصيب البقية إصابات خطرة، والسبب قذيفة حوثية، اختارت غرفتهم بعناية، لتحول حياة والدهم إلى جحيم، غادر منزله المدمر في حي «بير باشا» مُجبراً، وفي «حي الروضة» آثر ومن تبقى من عائلته البقاء، في بيت بالإيجار، أما دراجته النارية مصدر دخله، فقد احترقت ليلتها.

«أمل» البنت الكبرى لـ «يونس»، لم تتعافى بعد من جراحها، قالت بصوت مكدود: «أن تنزح بإرادتك غير لما تنزح بجراح، ومش عارف وين تروح»، وأضافت: «أبي بدون عمل، ويعالج خمسة من أطفاله المصابين»، وأشارت أن حالهم يزداد كل يوم سواءً، والأشد إيلاماً أنهم صاروا يستجدون أهل الخير، وأن أسمائهم لم تدرج ضمن كشوفات الإغاثة، تقول «أمل» بحرقة: «كلما سألنا العاقل، يقول: أنتم نازحين جدد، الأولوية لأصحاب الحارة!!».

صعوبة الحصر

نقلنا هذه الإشكالية لأهل الاختصاص، وبدورها أروى الشميري، وهي ناشطة حقوقية فاعلة في شؤون الإغاثة، تحدثت عن صعوبة حصر النازحين بشكل فردي، بسبب تنقلهم المُستمر في بيوت أقاربهم ومعارفهم، ولهذا فإن أسمائهم لا تدرج ضمن كشوفات الإغاثة، على عكس ما يحدث للنازحين بشكل جماعي، مُستدله بما حدث لنازحي قرية «تبيشعة ـ جبل حبشي»، تقول «الشميري»: «تمكنا من حصرهم من خلال تشكيل لجنة استقبال في مركز الإيواء بمدرسة اليرموك، ولذلك تمت عملية إدراج أسمائهم وتسليمهم الإغاثة بنجاح».

من جهته دكتور عبدالكريم شمسان «رئيس إئتلاف الإغاثة الإنسانية بتعز»، أفاد بأن أغلب الجمعيات حاليًا تعمل على إدراج الأسر النازحة من منطقة لأخرى في كشوفات الإغاثة، مع تحري عدم التكرار.

فعلٌ مُستمر

الحرب أنهكت الجميع، والنازحون كغيرهم يتمنون انتهائها وبسرعة، ليتسنى لهم طمس آثارها الكارثية، وهم قبل ذلك يحتاجون لمن يخفف عنهم معاناتهم، ومواساتهم في هكذا ظرف أمر مُلح، يفرض نفسه بقوة، يجب على الحكومة الشرعية، والسلطة المحلية، والمنظمات الحقوقية، والجمعيات الخيرية الفاعلة، أن تتبنى ذلك، وأن لا تفرق بين نازح وآخر، لأن الجميع في الهم سواء.

وخلاصة القول: باستمرار الحرب يبقى النزوح فعلٌ مُستمر، وبتوقفها سيصبح ذلك الفعل ماضٍ، وذكرى مؤرقة لا ولن تمحى، ستبقى أثاره مرسومة على الأرض، وستظل أوجاعه محفورة على جدران الذاكرة.

مقالات مشابهة