المشاهد نت

ضحايا قصف الطيران …أشلاء ورسائل شوق

ذمار – ضياء حسن:

“ولدي عبدالله. ولدي أين أنت؟”؛ صراخ الأم تردد صداه في القاعة الواسعة لقسم الطوارئ بمستشفى ذمار العام، خلال بحثها عن ولدها بين ضحايا قصف طيران التحالف العربي الذي تقوده السعودية، والذي طال سجن كلية المجتمع بمدينة ذمار (وسط اليمن)، التابع لجماعة الحوثي.
يخفت صوتها، ثم يعلو بالصراخ، موجهة السؤال إلى طبيب في قسم الطوارئ بالمستشفى: هل ابني حي؟
رد الطبيب بالقول: “مش عارف، يا والدة، هل هو بين الأحياء أو الأموات”، ثم نكس رأسه باتجاه جريح كان قد باشر في خياطة جرحه، قبل أن يلتفت للإجابة على سؤال أم عبدالله.
واستقبل مستشفى ذمار العام، العشرات من الأسرى لدى جماعة الحوثي، بعد تعرضهم لقصف من قبل مقاتلات التحالف، الكثير منهم إصاباتهم خطرة، ويحتاجون إلى عناية خاصة.
ووفق مقرب من أسرة أم عبدالله، فقد أُسر ابنها في إحدى جبهات محافظة البيضاء (وسط اليمن)، وهو يقاتل إلى جانب الجيش الحكومي، قبل عدة اشهر، مضيفاً أن عبدالله تنقل بين عدة سجون، ليستقر أخيراً في سجن كلية المجتمع بمنطقة الدرب شمالي مدينة ذمار، الذي تحولت مبانيه إلى سجن للأسرى والمختطفين.
وبعد جهود مضنية في البحث عنه قبل هذه الحادثة، عرفت الأسرة مكان احتجاز ابنها، لكن منع عنه الزيارة بشكل كلي، وفقاً للمصدر نفسه.
في اليوم التالي للجريمة، دعت لجنة شؤون الأسرى التابعة للحوثيين، أسر الأسرى، للحضور من أجل التعرف على جثث أقربائهم، واستلامها من مستشفى ذمار العام.
تلك الخطوة جاءت بعد تكدس الجثث في ثلاجة حفظ الموتى بمستشفى ذمار العام، وعجز المستشفى عن استقبال أعداد إضافية للجثث، في ظل عدم استجابة الصليب الأحمر الدولي لمطالب اللجنة باستلام الجثث.

رسائل الوداع الأخير

المكان متخم برائحة الوجع، والحزن، لم يمت العشرات من الأسرى تحت الأنقاض، بل قتلت معهم حنينهم إلى أسرهم وأقربائهم، وشوقهم للعودة إلى الحياة من جديد بعيداً عن جدران السجن وإقامته المضنية.
تبعثرت أجسادهم، كما هي تماماً أشعارهم وذكرياتهم ورسائلهم إلى أقربائهم ومحبيهم، أخذت الرياح منها ما أخذت، ودفنت أكوام الإسمنت ما دفنت، ليلتقي بعض المسعفين والصحفيين والنشطاء الذين زاروا المكان، شيئاً من تلك الأوراق.

ضحايا قصف الطيران ...أشلاء ورسائل شوق
قصيدة شعرية كتبها أحد السجناء وجدت بعد القصف


واحدة من تلك الأوراق التي نشرها الصحفي فؤاد النهاري، لأحد الأسرى، مجموعة كتابات إحداها رسالة إلى والدته، يقول فيها أحد الضحايا قبل مقتله في حادثة قصف الطيران: “أمي الغالية، لم أعد أطيق صبراً على فراقك. والله لا يقلقني سوى أني مديون لك أيها الغالية. أرجوك سامحيني”.
لم تكن تلك الأوراق تحمل أسماء، بل بدت كأنها رسالة جماعية لمن انتقلت أرواحهم إلى الضفة الأخرى من هذه الحياة. رسائل حملت في مضامين الشوق والأمل، الكثير من مشاعر البؤس والحرمان، ليكتب أحدهم قصيدة بعثها إلى من يحب، كاشفاً فيها مدى حبه للذكريات في الأيام التي كان إلى جوارها:
“يا نور عيني يا جميل كل الصفات
ما كنت أفكر أفرق في العمر يوم
لكن زمان الغدر حطم الأمنيات
قلبي وخلاها عليّ كالغيوم
يا رب اجمع شملنا لملم الشتات
واجعل محبتنا على الدنيا تدوم”
لينتقل في جزئية أخرى من الورقة التي وجدها “المشاهد”، قصيدة غاضبة:
“محبوس أنا محبوس
في سجن “الرافضة والمجوس”
من يشتي الفردوس
هيا نقاتل ضدهم
بالمرحلة والموس”
كتابات أخرى ورسائل إلى الأهل والأقارب، سكب أصحابها أوضاعهم دفعة واحدة، رغم يقينهم أنها لن تصلهم، وأن ما يكتبون مجرد بوح بعد أن حاصرتهم الجدران، وأنهكهم طول الأمل.

إقرأ أيضاً  حماية الشباب من التطرف في المهرة
ضحايا قصف الطيران ...أشلاء ورسائل شوق
أوراق من رسائل السجناء وجدت بعد القصف حصل عليها مراسل المشاهد

سجن كلية المجتمع

تتكون كلية المجتمع من 4 مبانٍ وعدة قاعات مسقوفة كانت تعد كورش مفتوحة، كل مبنى مكون من 4 أدوار، كان يتم سجن الأسرى في الدور الأول والبدروم.
المبنى خصص كسجن منذ دخول الحوثيين ذمار، العام 2014، رغم أن المبنى لم يسلم إلى الجهات الحكومية، لنقص بعض التجهيزات البسيطة، ومايزال في عهدة شركة المقاولات التي بنت الكلية.

ضحايا قصف الطيران ...أشلاء ورسائل شوق
رسالة من أحد السجناء للمشرف الحوثي على السجن


تعرضت مباني الكلية لـ3 لعمليات قصف، في أوقات متباعدة، خلال السنوات الماضية، وكانت تستهدف قاعات الورش والمباني بشكل عرضي وليس مباشراً، لكن الغارات الأخيرة كانت مركزة بشكل أساسي على المباني التي يتواجد فيها أسرى.
لم يعد للمباني غير أطنان من الإسمنت والأحجار، ترزح تحتها العشرات من الجثث، التي نام أصحابها للأبد.

أشلاء مبعثرة في المكان

منذ الساعات الأولى التي أعقبت الغارات، واصلت فرق الإنقاذ والهلال الأحمر والعشرات من المتطوعين، انتشال الضحايا، والتي يتضاءل الأمل في وجود أحياء، لحجم الدمار الهائل في المكان، بخاصة بين الأسرى الذين كانوا في البدرومات.
يقول مسؤول في جمعية الهلال الأحمر بذمار، بشير الضوراني، لـ”المشاهد” إن الساعات الأولى تم انتشال أكثر من 50 جثة، وأكثر من 100 مصاب، لكن مع مرور الوقت، كانت الجثث تحت أطنان من الإسمنت، ومن الصعب انتشال الجثث بشكل سريع، مضيفاً: “واصلت فرق الإنقاذ العمل حتى مع تصاعد الروائح الكريهة من تحت الأنقاض، وهذا يدل على وجود الكثير من الجثث، وعمليات إزالة أكوام الخرسانة تتم بشكل بطيء للغاية، لعدم وجود آلات حديثة، ونحن نستخدم الشيولات فقط لإزالة الخرسانة والأحجار من مكان وجود الجثث”. مؤكداً أن بعضاً من الجثث كانت بلا معالم، والعشرات منها تحولت إلى أشلاء.
بعد 4 أيام من البحث تحت الأنقاض، توقفت العملية، ومايزال هناك الكثير من الأشلاء، بحسب أحد المتطوعين، الذي أشار لـ”المشاهد”، إلى أنه لم يعد هناك جثث، لكن مايزال هناك بعض الأشلاء، مضيفاً: في الأيام الأولى كنا نجد أجساداً ممزقة، واليوم الثاني حتى توقف البحث لم نعد نجد غير أشلاء وبقايا أجساد وأطراف، بعضها بدأت تفوح منها روائح كراهية ويصعب الوصول إليه.
وربما بين تلك الأشلاء، عبدالله الذي لم تعرف له الأم طريقاً بين ضحايا القصف الذي طال سجن كلية المجتمع.

مقالات مشابهة