المشاهد نت

مدافع الحرب تخرس مدفع “علي حمود ” في تعز

تعز – منال شرف:

كلما دوى آذان المغرب في مدينة تعز (جنوبي غرب اليمن)، إيذاناً للصائمين بموعد الإفطار، يتذكر محمد الراجحي، أحد سكان المدينة، عندما كان طفلاً صغيراً، دقائق انتظاره لسماع دوي المدفع؛ ليتسنى له الأكل مع الصائمين؛ لذا كان ينادي: “دفع دفع يا علي حمود”، حتى يطلق حمود إحدى قذائف المدفع، كي يفطر سكان المدينة.
لقد حمل أطفال الأمس صوت المدفع معهم حتى كبروا، وباتوا يسمعونه في أذهانهم قبيل الإفطار، وإن لم يعد له وجود على الواقع.
يقول الراجحي: “كبرنا مع مدفع رمضان عاماً تلو الآخر، فقد كان، بالنسبة لنا، جزءاً من طقوس رمضان الدينية والروحانية المميزة التي ننتظر سماعها بلهفة، وما إن اندلعت الحرب وتوقف المدفع عن العمل، صار كل من يسكن مدينة تعز يراوده شعور بالفقدان والنقص، وكم وددت لو يعود المدفع للعمل؛ لنرجع بذكرياتنا لأيام السكينة والاستقرار، على الرغم من أن صوته لايزال عالقاً في رأسي، وبإمكاني أن أسمعه قبل أن أفطر”.

فرح وطمأنينة

الكثير من أبناء محافظة تعز تربطهم حكايا ومشاعر عميقة بمدفع رمضان، باعتباره جزءاً من تراث وتاريخ تعز، فقد ظل مدفع رمضان، إلى قبل اندلاع الحرب، من العادات اليمنية الحسنة التي أسهمت في ترسيخ الشعور بالحميمية والود تجاه رمضان وروحانياته؛ نظراً لأهمية دوره في السابق.

حسام الشراعي : لقد غاب مدفع رمضان، وظهرت مئات المدافع الأخرى، مخلفة الدماء والدمار هنا وهناك، الأمر الذي ولد عائقاً نفسياً لدينا، وحنيناً للماضي؛ إذ إننا نفتقد، بحق، صوت السلام والطهر الذي كان يأتي مع مدفع رمضان.


وتذكر ندى المجاهد كيف كانت سطوح المنازل في المدينة القديمة وسط محافظة تعز، تمتلئ بالأطفال الصغار، عندما تكون العائلات منهمكة بفرش السُّفَر، ووضع المأكولات اللذيذة عليها؛ وهم يرددون معاً: “دفع دفع يا علي حمود! مرتك جائع قده شتموت، وين السلطة وين الشفوت”.
وكان سماع صوت المدفع يبث السرور والبهجة في قلوب الأطفال جميعاً، ويدفعهم للالتحاق بموائد الإفطار؛ لما تحمله من أجواء أسرية دافئة.
وبحسب حسام الشراعي، فقد كان مدفع رمضان رفيقاً لأجواء الطمأنينة والسكينة التي عرف بها الشهر الكريم، وكان يعني للمدينة الشيء الكبير، كتفريج عن الصابرين، وتوحيد للإفطار عند توقيت واحد.
ويقول الشراعي: “لقد غاب مدفع رمضان، وظهرت مئات المدافع الأخرى، مخلفة الدماء والدمار هنا وهناك، الأمر الذي ولد عائقاً نفسياً لدينا، وحنيناً للماضي؛ إذ إننا نفتقد، بحق، صوت السلام والطهر الذي كان يأتي مع مدفع رمضان”.

متى كانت البداية؟

عرفت اليمن مدفع الإفطار مع بداية التواجد العثماني الأول (945ـ 975هـ)، وكان محصوراً على العاصمة صنعاء، قبل أن يتم توزيعه على كل محافظات البلاد، أما مدفع تعز، فقد بدأ إطلاقه من “أكمة العكابر” بمنطقة العرضي، قبل قيام ثورة 1962م، كما جاء في حوار سابق أجراه “المشاهد” مع نجل المدفعي علي حمود، ثم نقل إلى قلعة القاهرة، ثم نقل أخيراً إلى منطقة “الكريفة” بجبل صبر، عام 1983م، وهي مرتفع يعلو قلعة القاهرة من جهة الجنوب.
وتعود البدايات الأولى لاستخدام المدفع الرمصاني، بحسب كتب التاريخ، إلى زمن السلطان المملوكي لمصر “خشقدم” الذي أراد أن يجرب مدفعاً ألمانياً وصل إليه، في أول أيام رمضان لعام 865هـ. وصادف إطلاقه وقت المغرب؛ مما جعل الناس يظنون أن السلطان تعمد ذلك لتنبيهم لموعد الإفطار، فراحت جموع الأهالي تشكره على هذه البدعة الحسنة.
وعندما رأى السلطان سرورهم، أصدر قراراً بإطلاق المدفع وقت الإفطار ووقت السحور والإمساك.
وتفيد رواية أخرى أن بعض الجنود، في عهد الخديوي إسماعيل، كانوا يعملون على تنظيف أحد المدافع، مساء يوم رمضاني، فانطلقت منه قذيفة وقت أذان المغرب بالضبط، فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليداً جديداً للإعلان عن موعد الإفطار، وصاروا يتحدثون بذلك، وعندما علمت الحاجة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل، بما حدث، أعجبتها الفكرة، وأصدرت فرماناً يفيد باستخدام هذا المدفع عند الإفطار والإمساك، ثم انتقلت هذه العادة إلى أغلب الدول العربية والإسلامية.

إقرأ أيضاً  من طقوس العيد.. «الحناء الحضرمي» صانع بهجة النساء

مدافع الحرب تصادر تراث تعز

وينقسم الناس إلى قسمين: قسم يحن لعودة مدفع رمضان إلى العمل، ويجده أمراً ضرورياً؛ لما كان يشيعه من الفرح والبهجة في قلوب الجميع؛ إذ إنه يضفي جواً خاصاً بشهر رمضان المبارك، ويعزز ارتباطه بالناس، علاوة على أن عودته من شأنها أن تسهم في الحفاظ على الموروث القديم للمدينة.
يقول عبدالله الحميري، أحد سكان تعز: تبحث الدول الأخرى عن أصغر العادات لإكساب نفسها عمقاً تراثياً تاريخياً، ونحن، للأسف، نحمل الثقافة والتراث الذي يمتد لمئات وآلاف السنوات، وندفنه بأيدينا يوماً بعد يوم! لا بد أن نستوعب أن عودة المدفع تعني الإبقاء على أحد الملامح المميزة لثقافتنا وعاداتنا الجميلة، والتي تربينا على سماعها والتغني بأهزوجتها: “دفع دفع يا علي حمود”.
أما القسم الآخر، فينفي أية أهمية لعودته، ويرى أن مدفع رمضان لن يكون بوسعه أن يتصدر مسامع الصائمين مجدداً، خصوصاً بعد أن تركت مدافع الحرب صورة دموية ومقلقة في أذهان الناس. يقول أنس الأثوري: “قديماً، كانت المساجد قليلة ومتباعدة، ولا تكنولوجيا تضبط الوقت في ذلك الزمن، فيختلط على بعض الناس، ويفوت على البعض الآخر؛ لذا كان المدفع حلاً مبدعاً وصوتاً مدوياً يسمعه الجميع، أما اليوم، فقد تقدم العلم كما نعلم، وصرنا نعرف بأنفسنا أوقات الإمساك والإفطار، بحسب وزارة الأوقاف، وبدون الحاجة إلى المدفع، فهو من الأشياء التي تخلص التقدم الحديث منها ومن أعباء نفقتها، وكان مهماً لو لم تكن المساجد تؤدي دور تبليغ الناس بالإمساك والإفطار”.
ويختصر آخر رأيه بكلمتين: “يكفينا مدافع”.

مقالات مشابهة