المشاهد نت

الإخفاء القسري… موت على قيد الحياة

صورة تعبيرية

صنعاء – حسان محمد:

بعد عامين من الاختفاء القسري، والبحث المتواصل، تلقت أسرة مراد الوافي، في أغسطس 2019، اتصالاً هاتفياً من صنعاء، يبلغهم بالحضور لاستلامه، ففرحت العائلة بالخبر، وبسرعة انطلق شقيقه إلى صنعاء بهدف استلامه والعودة به إلى عائلته التي اكتوت بنار البعد والحيرة. لكن فرحته انهارت فجأة عندما رأى أخاه جسداً بين الحياة والموت.

قتل الحزن ومرارة الألم فرحة اللقاء ولم الشمل، عندما ظهر مراد كشبح ناحل الجسم وخائر القوى من شدة المرض والإعياء، نتيجة التعذيب الذي ظهرت آثاره على جسده.

وأطلقت جماعة الحوثي سراح مراد بعد تدهور حالته الصحية، وإصرار الطبيب على ضرورة تسليمه لأسرته، لأن شفاءه صار أمراً ميئوساً منه نتيجة إصابته بمرض تليف الكبد، كما يقول شقيقه لـ”المشاهد”.

مُنعت أسرة مراد من زيارته أو معرفة مكان اعتقاله لعامين. وتعرض لشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي الذي تمثل في الضرب العنيف والصعق الكهربائي والتعليق والحرمان من النوم والتهديد والإساءات اللفظية، ابتداء من معتقلات مدينة الصالح بالحوبان شرق مدينة تعز (جنوبي غرب البلاد)، حتى وصوله إلى سجون جهاز الاستخبارات والأمن.

وتعجز أسرته عن تقديم الرعاية الطبية اللازمة له، والسفر به للعلاج في العاصمة المصرية القاهرة، رغم تعاون بعض الأهالي والأقارب معها، وبيعها بعضاً من مقتنياتها الثمينة.

ضحايا بالجملة

حالة مراد الوافي واحدة من 1605 وقائع احتجاز تعسفي، و770 واقعة اختفاء قسري، و344 واقعة تعذيب، منها 66 واقعة وفاة في أماكن الاحتجاز غير الرسمية لدى مختلف أطراف النزاع في اليمن، خلال الفترة من مايو 2016 إلى أبريل 2020، سجلتها منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، في تقريرها بعنوان “في العتمة: وقائع الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب في مراكز الاحتجاز غير الرسمية في اليمن”.

وبحسب تقرير مواطنة، فإنه يوجد 11 مركزاً غير رسمي فيه احتجاز تعسفي وإخفاء وتعذيب.

وسجلت جماعة الحوثي أعلى عدد من الانتهاكات، بلغت 904 وقائع من الاحتجازات التعسفية أو المسيئة، و353 من وقائع الاختفاء القسري، و138 من وقائع التعذيب، منها 27 واقعة وفاة.

وتتحمل الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، المسؤولية عن 282 من الاحتجازات التعسفية أو المسيئة، و90 من وقائع الاختفاء القسري، و65 من وقائع التعذيب، منها 14 واقعة وفاة.

وتتحمل القوات الإماراتية وجماعات مسلحة تابعة لها، المسؤولية عن 419 من الاحتجازات التعسفية أو المسيئة، و327 من وقائع الاختفاء القسري، و141 من وقائع التعذيب، منها 25 واقعة وفاة، وفق تقرير مواطنة.

وسجلت رابطة أمهات المختطفين، أبرز المنظمات التي برزت من وسط ألم الاختطاف والإخفاء، ونظمت العديد من وقفات الاحتجاج والأنشطة المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين والمخفيين، نحو 12 ألفاً و636 مختطفاً ومخفياً قسرياً، يتوزعون على 20 محافظة يمنية، وكان لجماعة الحوثي نصيب الأسد في عدد الانتهاكات.

ورصدت الرابطة، في تقرير “سجن حنيش” 262 سجناً ومكان احتجاز، منها 244 تابعة لجماعة الحوثي، و8 للأحزمة الأمنية، و6 لتشكيلات عسكرية، و4 للحكومة، وأوضح أن الحوثيين يستخدمون نقاط التفتيش ومنازل السياسيين المعارضين ودور العبادة والمدارس سجوناً سرية، وتستخدم الأحزمة الأمنية التابعة لدولة الإمارات المعسكرات ومنازل قيادات أمنية.

حرمان من الحقوق القانونية

يوضح المحامي معاذ القرشي، أن هناك فرقاً شاسعاً بين السجين الذي ارتكب جريمة يعاقب عليها القانون، ووصل إلى سجن معروف مكانه، وتستطيع أسرته زيارته، وبين المخفي قسراً الذي يؤخذ دون مبرر، ولأسباب سياسية بحتة، ولا يعرف له مكان ولا يستطيع أحد زيارته، وليس له مدة إخفاء معينة، ويمكن أن يموت في مكان إخفائه فقط تحقيقاً لرغبة السلطة.

ويقول القرشي لـ”المشاهد”: “التحقيقات مع المخفي قسرياً لا تتوفر فيها شروط قانونية، ويحرم المعتقل من حقه في الدفاع، ويقوم بها عادة رجال استخبارات، ويمارس عليه صنوف التعذيب والحرمان المتعمد من النوم، وفي الغالب الأعم يحالون إلى مصحات نفسية ليصيروا مجانين، ويسهل على المجرمين طمس معالم جريمتهم، حيث يخرج المخفي قسرياً وهو لا يتذكر حتى من يكون”.

وبحسب منظمة مواطنة، فإن الأفراد الذين يتم احتجازهم، يحرمون من حقوقهم الأساسية، وتم القبض عليهم دون أمر قضائي، وخضعوا للاحتجاز دون سبب محدد، ومنعوا من الحق في المثول أمام قاضي، أو استشارة محامٍ، أو الطعن في احتجازهم. وخضع بعضهم لمحاكمات شكلية، لا ترقى إلى مستوى العدالة.

إقرأ أيضاً  «معارض رمضانية» تخفف معاناة المواطنين بحضرموت

عقود من الإخفاء

ظاهرة الإخفاء القسري قديمة ومتجذرة في اليمن، ومارستها الأنظمة القديمة في شطري البلاد التي اعتبرت الصوت والفكر المغاير عدواً لها، ووجدت في الإخفاء حلاً مناسباً لإسكاتها، وساعد غياب مبدأ التعايش بين الأفكار والنظريات وغياب الديمقراطية بمنظورها الشامل على توسع الظاهرة، كما يؤكد المحامي القرشي.

ويعد العقيد أمين القرشي، وزير التموين والتجارة الأسبق، ومدير عام جهاز الاستخبارات في الجمهورية العربية اليمنية سابقاً، أحد النماذج لجرائم الإخفاء، حيث اعتقل في 1978 من منزله بصنعاء، واقتيد إلى معتقل الأمن الوطني بحنظل، ومايزال مخفياً حتى اليوم، رغم الكثير من وعود السلطة الحاكمة والرئيس السابق علي عبدالله صالح، لوزير العدل الأسبق إسماعيل الوزير، ونجله القاضي وضاح القرشي، بالإفراج عنه.

ويقول المحامي القرشي، وهو ابن أخت المخفي غالب القرشي: “ما يؤلم حقاً أنه مع كثر ضحايا الإخفاء القسري في اليمن، لم يحاسب واحد فقط من مرتكبي الجريمة، بل للأسف مُنح صالح وكل نظامه الحصانة التي تعد بمثابة اعتذار الضحية للجاني، وهذا انحدار لميزان العدل لصالح المجرمين”.

انتهاكات خلف الجدران

يترتب على الإخفاء القسري ارتكاب جرائم بشعة وانتهاكات جسيمة تجاه الضحايا بعيداً عن عيون القانون، وتنسب إلى المعتقلين تهم قد يُجبرون على الاعتراف بها تحت التعذيب المفرط، وأبرزها ما يلقيه الحوثيون على ضحاياهم من تهم بالخيانة، والتخابر مع ما يسمونه العدوان على اليمن، وتحديد الإحداثيات، بالإضافة إلى تهم الإرهاب والانتماء لتنظيم القاعدة وغيرها، كما يحدث في معتقلات الأحزمة الأمنية والنخب الموالية للإمارات في المحافظات الجنوبية.

وتوضح منظمة هيومن رايتس ووتش أن الأطراف المتحاربة في اليمن، كالحوثيين والجماعات التابعة للإمارات وقوات الحكومة اليمنية، احتجزت تعسفاً عشرات الأشخاص، وعذبتهم، وأخفتهم قسراً.

تتنوع أساليب التعذيب، بحسب تقارير الخبراء والمنظمات الإنسانية والحقوقية، بين الاعتداء والإذلال الجنسي والتعرية من الملابس أو التهديد بالاغتصاب، ونزع الأظافر، والصعق بالكهرباء، والضرب المبرح بالعصي والأسلاك، والزنازين الانفرادية الضيقة، والحرمان من النوم.

ومع تعدد الجماعات المسلحة ومراكز الاحتجاز غير الرسمية، يتفشى سوء المعاملة والظروف السيئة. والإجراءات القانونية محدودة، ويحرم المعتقلون من الرعاية الطبية.

وهو ما تؤكده تقارير فريق خبراء الأمم المتحدة المعني باليمن، التي تشير إلى صنوف من أشكال التعذيب والممارسات القمعية واللاإنسانية التي تطال المخفين والمعتقلين تعسفياً، بسبب انتماءاتهم السياسية أو الدينية أو المهنية أو لنشاطهم السلمي.

وتتنوع أساليب التعذيب، بحسب تقارير الخبراء والمنظمات الإنسانية والحقوقية، بين الاعتداء والإذلال الجنسي والتعرية من الملابس أو التهديد بالاغتصاب، ونزع الأظافر، والصعق بالكهرباء، والضرب المبرح بالعصي والأسلاك، والزنازين الانفرادية الضيقة، والحرمان من النوم، والتعليق في السقف لساعات في بعض الحالات بشكل مقلوب، وكذلك يتلقون وعوداً بالإفراج عنهم، لكن بدلاً من ذلك يتم أخذهم إلى أماكن أخرى، والاعتداء عليهم بالضرب المبرح قبل إعادتهم مجدداً إلى مكان الاحتجاز.

جرائم غير مبررة

ولا تقتصر المعاناة على المخفي قسرياً، إذ تعيش عائلات المفقودين في دوامة من القلق والشك، وينفق أفرادها مدخراتهم لمعرفة مكان احتجازهم أو حتى إذا مازالوا على قيد الحياة، وعندما يُعرف مكان معتقل، لا تستطيع أسرته الوصول إليه، ويتفشى في المعتقلات سوء المعاملة والظروف السيئة.

وبسبب كل تلك الانتهاكات الجسيمة سُنت قوانين وتشريعات تجرم الإخفاء القسري وكافة الأساليب المرتبطة بها، ومن أهم التشريعات “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري” التي اعتبرته جريمة خطيرة ضد الإنسانية، ووضعت في الاعتبار حق كل شخص في عدم التعرض لاختفاء قسري، وحق الضحايا في العدالة والتعويض.

ونصت المادة الأولى منها على أنه لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري، وأكدت الفقرة الثانية من المادة أنه لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري. وشددت الاتفاقية على وضع كافة الإجراءات لتجريم الإخفاء ومعاقبة مرتكبي الجريمة.

مقالات مشابهة