المشاهد نت

جنوب أفريقيا… أكثر التجارب إلهاماً في العدالة والمصالحة والانتقال السياسي

منظر من احدي مدن جنوب افريقيا

تعز – عبدالعالم بجاش :

تشكل جمهورية جنوب أفريقيا علامة فارقة في الانتقال السياسي والمصالحة، بما قدمته من طريقة مبتكرة لتجاوز إرث أكثر من ٤٠ سنة من ممارسات وجرائم الفصل العنصري المقننة في البلاد، منذ فرضه رسمياً، خلال الفترة الممتدة منذ ١٩٤٨ وحتى ١٩٩٠، وموروث ٣٥٠ عاماً من الوقوع تحت طائلة الاستعمار والاستيطان الأبيض.
ولم تكن الفترة الممتدة من عام ١٩٤٨ سوى الفصل الأخير لحقبة استعمارية أوروبية استوطنت جنوب أفريقيا، لأكثر من 3 قرون، عاش فيها السكان الأصليون في جنوب أفريقيا، وهم الأفارقة السود، في حرمان من كافة الحقوق، وعاشت خلالها البلاد في نزاعات وحروب طاحنة.
وفي نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وجدت جنوب أفريقيا مخرجاً، حيث بدأت مفاوضات سرية بين الحكومة العنصرية هناك وأحزاب وقوى أفريقية مناهضة للتمييز العنصري، أفضت تلك المفاوضات إلى تسوية سياسية قضت بإلغاء الفصل العنصري، والاحتكام لصناديق الاقتراع.
ويعد الهولندي يوهان أنطونيسون فان ريبيك ‏(21 أبريل 1619 – 18 يناير 1677) من أوائل المستوطنين البيض والمؤسس له في أرض جنوب أفريقيا. لكنه ليس المستكشف الأوروبي الأول لتلك الأراضي الخصبة.
كان ريبيك إدارياً هولندياً استعمارياً، ومؤسس كيپ تاون، والقائد الهولندي لأول مستوطنة في رأس الرجاء الصالح، التابعة لشركة جزر الهند الشرقية الهولندية في أفريقيا الجنوبية.
ويعود الاهتمام الأوروبي بجنوب أفريقيا إلى مرحلة سابقة، بدأت منذ زمن خواو الثاني، ملك البرتغال، الذي كلف بارثولوميو دياز، وهو مستكشف برتغالي توفي عام 1500، للقيام برحلة بحرية استكشافية، وكانت البرتغال وفقاً للمصادر التاريخية، تتوق لأن تصبح امبراطورية قوية وثرية بالوصول إلى الهند دون وساطة المسلمين.
من أجل ذلك، أبحر دياز حول رأس العذاب الذي أعيدت تسميته رأس الرجاء الصالح، الطرف الجنوبي لقارة أفريقيا، في 1488، ليكون أول أوروبي يقوم بهذا العمل.

جنوب أفريقيا… أكثر التجارب إلهاماً في العدالة والمصالحة والانتقال السياسي

جذور الأبارتهايد


بدأ الهولنديين بقيادة فان ريبيك، في التدفق إلى جنوب أفريقيا منذ العام ١٦٥٢، وإقامة مستوطنات لهم تحت تأثير جاذبية توفر الأراضي الخصبة والثروة الحيوانية.
وبذر فان ريبيك ومجموعته، إلى جانب زراعة الأرض، فكر العنصرية، وأسسوا للتمييز العنصري.
وكان الاستناد إلى الدين لتبرير مخطط استيطاني ممنهج، تقول المرويات التاريخية إن فان ريبيك بدأه مع 90 هولندياً، منهم 8 نساء. كانوا هم البذور للاستعمار الأوروبي، حاملين معهم فكر الفصل العنصري.
وبدأت قصة ريبيك في سن ٢٠ عاماً، حيث كان يعمل لدى شركة الهند الشرقية الهولندية، التي أرسلته إلى جزر الهند الشرقية الهولندية (إندونيسيا)، سنة 1640، كما عمل في اليابان والهند الصينية. لكنه اتهم بالمتاجرة لحسابه، وتم ترحيله إلى هولندا.
وفي طريق عودته رسا الأسطول الهولندي في خليج تيبل، رأس الرجاء الصالح. وهناك تقول المصادر التاريخية إن فان ريبيك قضى 18 يوماً على الشاطئ، تكونت لديه خلالها قناعة بأن رأس الرجاء الصالح يمكن أن يموّن السفن العابرة والمحمَّلة بالمنتجات الطازجة.
وقد عرض فكرته على شركة الهند الشرقية، وأرسلته إلى الكاب في جنوب أفريقيا، لاستيطانها واستعمارها كما سيبدو في اللغة الرمزية التي تشير إلى مهامه.
ووفقاً للمصادر التاريخية “كانت تعليماته أن يزرع بستان خضروات، ويبني قلعة حماية، ويشتري الأبقار من السكان المحليين”.
عندما وصل فان ريبيك إلى الكاب، سنة 1652، مع طليعة الهولنديين الذين لا يتجاوز عددهم ٩٠ شخصاً، كان أول عمل قام به هو تأسيس مدينة كيپ تاون.

زاد تدفق البيض من دول أوروبا للاستيطان في جنوب أفريقيا، وتزايدت أعدادهم على نحو غير طبيعي، وتشكلت في ما بينهم قواسم مشتركة، أبرزها اللغة الأفريقانية والكالفينية. إضافة إلى نزعة عنصرية مشتركة، تكونت لدى المستوطنين البيض الأوروبيين فكرة مشتركة، وأنهم في تلك الأرض التي استوطنوها يمثلون تكراراً لقصة العبرانيين في الكتاب المقدس، وأن الرب “اختارهم كونهم بيضاً، واصطفاهم”.


كانت مجموعته النواة الأولى للمستوطنين البيض الذين عُرفوا في ما بعد باسم “أفريكانر”.
وزاد تدفق البيض من دول أوروبا للاستيطان في جنوب أفريقيا، وتزايدت أعدادهم على نحو غير طبيعي، وتشكلت في ما بينهم قواسم مشتركة، أبرزها اللغة الأفريقانية والكالفينية. إضافة إلى نزعة عنصرية مشتركة، تكونت لدى المستوطنين البيض الأوروبيين فكرة مشتركة، وأنهم في تلك الأرض التي استوطنوها يمثلون تكراراً لقصة العبرانيين في الكتاب المقدس، وأن الرب “اختارهم كونهم بيضاً، واصطفاهم”. كان ذلك تأسيساً دينياً للعنصرية لتبرير مخطط استيطاني يهدف إلى اضطهاد السكان الأفارقة الأصليين، وطردهم من أرضهم ومعاملتهم بدونية، دون اعتبار لتاريخ جنوب أفريقيا الذي يعود تاريخ استيطان الإنسان فيها إلى آلاف السنين.
ومن خلال تلك المجريات، تأسس الاستيطان الأوروبي في جنوب أفريقيا، أو ما يسمى “الاستيطان الأبيض”، منتصف القرن السابع عشر، عبر مستوطنين كالفنيين من أصول هولندية وفرنسية وألمانية، عرفوا باسم البوير، أي المزارعين، ولاحقاً أفريكان تمييزاً لهم عن الأفارقة السود، وليشكلوا قومية جديدة رفضت الاندماج مع الشعوب هناك، وأصرت على استعبادهم لأكثر من ٣٠٠ سنة، حتى سقوط نظام الفصل العنصري عام ١٩٩١.

جنوب أفريقيا… أكثر التجارب إلهاماً في العدالة والمصالحة والانتقال السياسي

البانتو.. قبيلة أم

على أن جنوب أفريقيا القديمة، قبل أكثر من ٣٥٠ عاماً، لم تكن أرضاً مشاعاً “بلا سكان” كما ظن جان ريبيك المستوطن الأول من البيض. فقد نشأت بجنوب أفريقيا، كثير من قبائل السكان الأصليين من الأفارقة السود من قبل مجيء الأوروبيين البيض، بمئات السنيين.
سكانها الأوائل هم من المجموعات الناطقة باللغة الخويسانية، وجاء الناطقون بلغات البانتو إليها قبل حوالي ألفي سنة.
شكلت البانتو القبيلة الأم، ومنها تتفرع قبائل كثيرة.
وتقع جنوب أفريقيا في أقصى الطرف الجنوبي من القارة الأفريقية، وتحدها ناميبيا من الشمال الغربي، وبتسوانا وزيمبابوي من الشمال، وموزمبيق من الشمال الشرقي، وباقي حدودها مفتوحة على المحيطين الهندي والأطلسي.

نظرة إلى الوراء.. الأرض والناس

وفقاً للمصادر التاريخية، وصل إلى أراضي جنوب أفريقيا من الشمال الأفريقي مزارعون ناطقون بلغة البانتو في القرن الثاني الميلادي.
أولئك المزارعون البانتو يعتبرون أجداد السكان السود الحاليين في جنوب أفريقيا، والذين يمثلون الأكثرية بعدد ٢٥ مليوناً، و٤ ملايين آسيويون من الهند وباكستان، و٤ ملايين من البيض. وشهدت البلاد بعد ذلك قدوم أعداد كبيرة من جنسيات أوروبية أخرى.

جنوب أفريقيا… أكثر التجارب إلهاماً في العدالة والمصالحة والانتقال السياسي

الاستيطان الأبيض في جنوب أفريقيا

خلال القرن التاسع عشر احتلت بريطانيا جنوب أفريقيا، ودخلت في حروب تارة مع الأفارقة السود السكان الأصليين، وتارة أخرى مع البوير من أبناء جلدتهم، وهو ما جعل الاستعمار الأوروبي لجنوب أفريقيا شكلاً مختلفاً من النظام الاستعماري، وأكثر تعقيداً، حيث عمد الاستعمار للاستقرار هناك، وإيجاد نظام تعود منافعه على البيض وحدهم، ويحيل باقي السكان الأصليين وغيرهم إلى فئات أدنى.

جنوب أفريقيا… أكثر التجارب إلهاماً في العدالة والمصالحة والانتقال السياسي

الكفير.. حرب الـ١٠٠ عام

في بداياتها، واجهت عملية الاستيطان الأبيض مقاومة شرسة من السكان الأصليين في منطقة الكيب، الذين شنوا غارات على المستوطنين الأوروبيين، بخاصة حين بدأت مفاعيل الفكر الاستعماري الأوروبي ذي النزعة العنصرية لدى المستوطنين، تجد طريقها نحو أراضي الفلاحين الأفارقة، لتستولي عليها، ونحو مواشيهم لتسرقها.
وبدأ فصل طويل من الحروب والاقتتال بين الأفارقة والمستوطنين، أبرزها حروب اندلعت بين المستوطنين وقبائل الهوسا، عُرفت باسم حرب الكفير أو حرب الـ100 عام، والتي امتدت من أواخر القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، وانتهت بقدوم الاستعمار البريطاني بجيوشه النظامية وأسلحته النارية، وانهيار مقاومة قبائل الهوسا بعد تعرضهم للقمع الشديد.

اكتشاف الماس

على ضفاف نهر الأورانج، ذات يوم من عام ١٨٨٩، وفيما كان أطفال أفارقة يلعبون، عثروا على معدن غريب تبين لاحقاً أنه ألماس. كان ذلك واحداً من الاكتشافات المعدنية غير المتوقعة في أرض فقيرة يكافح سكانها الأفارقة للعيش بتواضع من خلال عملهم في الزراعة، ويتاجر المستوطنون في أعمال أهمها تصدير الصوف واللحوم.
في وسط البلاد، الترنسفال، كانت عملية اكتشاف المعادن قد بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان اكتشاف الماس بالصدفة، تلاه اكتشاف الذهب ومعادن أخرى ثمينة (بلاتين، نحاس، رصاص، فحم، حديد، وكروم).
واستحوذ المستوطنون الهولنديون والإنجليز على الثروات الكبيرة بفعل تلك الاكتشافات، وتوسعت أعمالهم وازدهرت على حساب السكان الأصليين من السود. كما هيمنوا على ٨٥% من أراضي البلاد التي تتركز فيها الثروات.

الاتحاد الأفريقي: توافق عنصري هولندي بريطاني

لم تكتسب جنوب أفريقيا صفة الدولة لزمن طويل حتى مطلع القرن العشرين.
تم إعلان اتحاد جنوب أفريقيا، عام ١٩٠٩، بضم المستعمرات البيضاء الأربع في كيان واحد، بهدف المساواة بين البيض فقط من الهولنديين “البوير” والإنجليز، فيما يحافظ على السياسات العنصرية ضد الأكثرية من السود وباقي القوميات.
تضمن تشريع جنوب أفريقيا الصادر في ذلك العام، اعترافاً بوحدة كل المستعمرات البيضاء في جنوب أفريقيا: الكيب والترنسفال وأورانج والناتال، تحت اسم اتحاد جنوب أفريقيا. وتم وضع دستور له، وتدشينه عام ١٩١٠.
وكانت رئاسة الاتحاد الناشئ بالتناوب لكل من “بوتا” (من أصول هولندية) و”إيان سمتس” (إنجليزي)، وهما المؤسسان الوطنيان للدولة بنظر البيض.
وقد نص تشريع جنوب أفريقيا على إقامة برلمان واحد يقتصر على البيض، يمنح وضعاً متساوياً للبيض من البوير والإنجليز.
كانت الخارطة السكانية في ذلك الزمن تبرز بوناً شاسعاً بين السكان الأصليين والسكان من أصول أوروبية، وعنصرية سائدة، فقد كان تعداد الأفارقة السود 4 ملايين وربع المليون، مقابل مليون وربع المليون من البيض، ونصف مليون من الملونين، و١٦٠ ألف هنوداً وشرق آسيويين مسلمين.
كان الأفارقة السود مضطهدين ومحرومين من كل الحقوق، تحت سلطة البيض وعنصريتهم.
بتدشين اتحاد جنوب أفريقيا عام ١٩١٠، اكتسبت جنوب أفريقيا وضع الدولة على الصعيد العالمي، وتم الاعتراف بها من قبل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى.

أبارتايد.. الفصل العنصري يستحوذ على التاريخ

في المصادر التاريخية تعرف كلمة الأبارتايد أو “الأبارتيد أو الأبارتهايد، باللغة الأفريكانية” بمعنى “الفصل”.
ووفق المصادر التاريخية، فإن أول استعمال معروف لكلمة “أبارتهايد” كان عام 1917، خلال خطاب ألقاه جان كريستيان سماتس، الذي أصبح لاحقاً رئيس وزراء جنوب أفريقيا عام 1919.
كان الهدف من نظام الأبارتايد تغليف الممارسات العنصرية للبيض في غلاف قانوني، يبقي الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية البيض من أصول أوروبية.

مذبحة شاربفيل

ومنذ مطلع الستينيات من القرن العشرين، بلغت سياسات الفصل العنصري والقمع المصاحب لها ذروتها، وشهدت البلاد أحداثاً عنيفة واستخداماً للقوة المفرطة من قبل النظام الحاكم هناك، ممثلاً بحكومة الحزب الوطني.
كانت أحداث “شاربفيل” نقطة فاصلة.. ففي ٢١ مارس ١٩٦٠، ارتكبت حكومة الفصل العنصري مذبحة في بلدية شاربفيل، بحق متظاهرين خرجوا في تظاهرة سلمية في مقاطعة ترانسفال بجنوب أفريقيا، أثارت ردود فعل دولية غاضبة.
حدث ذلك حين تجمع حشد من المتظاهرين تراوح عددهم ما بين 5000 و7000 شخص، أمام مركز الشرطة، بعد يومٍ من المظاهرات، احتجاجاً على قوانين الاجتياز أو قوانين المرور المفروضة من قبل نظام الفصل العنصري، وقامت الشرطة بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وقتل منهم 69 شخصاً.
وتكريماً لضحايا تلك المذبحة، أعلنت الأمم المتحدة ٢١ مارس من كل عام “اليوم الدولي للقضاء على التمييز العنصري”، ويتم الاحتفال به سنوياً.
وبعد تلك المجزرة، وصلت الأحزاب والقوى المناهضة للفصل العنصري إلى قناعة أن النضال السلمي وحده غير كافٍ، وأن الضرورة تقتضي اللجوء للعنف، إلى نوع من حروب العصابات، لإرغام حكومة البيض على سماع صوت الشعب، والانصياع لمطالب الأكثرية التي نادت بالعدالة وإلغاء الفصل العنصري “الأبارتيد”.
فرضت سياسات التمييز العنصري حرمان الأفارقة السود من حقوق مساوية للبيض، فلم يكن يسمح لهم بالعمل إلا في أعمال محددة، ولم يكن مسموحاً لهم امتلاك أرض، ومُنعوا من حق الانتخاب، وتم عزلهم في مناطق خاصة بهم.

سياسة المعازل

ظلت بريطانيا، ووفق سياساتها المعهودة في تمزيق الشعوب والعبث بمصائرها، هي اللاعب المهيمن خلال مراحل متفاوتة في الصراع الجنوب أفريقي.
وكانت بريطانيا وراء ما وصفته الباحثة والكاتبة الفلسطينية سلافة حجاوي، في دراسة لها نشرت في يناير ١٩٩٩، بأنه قرار بإلغاء الأفارقة اتخذته بريطانيا منتصف القرن التاسع عشر “حين عمدت بصفتها القوة الاستعمارية المسيطرة على جنوب أفريقيا بين عامي 1846 و1864، إلى إقامة 8 مناطق لا يحق للسود الإقامة خارجها.
وحين تمت إقامة الاتحاد ١٩١٠، كان نحو 40% من السود يقيمون في هذه المعازل، بينما كان نحو 40% يقيمون في مزارع البيض إما كعبيد أو أجراء، بينما كانت هناك قلة متفرقة في مناطق متناثرة تنتج المحاصيل للتصدير، والتي ما لبثت أن تقلصت بفعل الضغوط السكانية”.

إقرأ أيضاً  اللحوح... سيدة مائدة الإفطار الرمضانية

قانون بطاقة المرور

وطوال ٢٠٠ عام خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، استمر الاستيطان الأبيض في تجريد الأفارقة السود السكان الأصليين من أراضيهم وممتلكاتهم بصورة ممنهجة ومخطط لها، وبوشر بإلغائهم منتصف القرن التاسع عشر، حين تم فرض سياسة المعازل، وصدور قانون بطاقة المرور الذي “يحظر على السود المرور في أية مناطق خارج نطاق المعازل المخصصة لهم، بدون بطاقة موقعة من المسؤولين عن مكان إقامتهم من جهة، ومن سيده في مكان عمله من جهة أخرى”.
وتوالى صدور المزيد من القوانين العنصرية التي كرست أشكالاً من العبودية “تضع السود في مرتبة دنيا، وحددت العلاقة بين البيض والسود على أساس سيد ومسود”.

حفزت تجربة نظام الفصل العنصري تحركاً دولياً قوياً مناهضاً لذاك النظام، وانخرطت الأمم المتحدة في أنشطة واسعة تكللت بإرساء جزء كبير من الاتفاقيات والقوانين الدولية التي أكدت على مبدأ المساواة، وأن “جميع البشر يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، ولديهم القدرة على المساهمة البناءة في تنمية مجتمعاتهم”.

سقوط الأبارتايد

لقد حفزت تجربة نظام الفصل العنصري تحركاً دولياً قوياً مناهضاً لذاك النظام، وانخرطت الأمم المتحدة في أنشطة واسعة تكللت بإرساء جزء كبير من الاتفاقيات والقوانين الدولية التي أكدت على مبدأ المساواة، وأن “جميع البشر يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، ولديهم القدرة على المساهمة البناءة في تنمية مجتمعاتهم”.
وفي ١٩٦٢ والسنوات اللاحقة، أصدرت هيئة الأمم المتحدة عدة قرارات لمقاطعة اتحاد جنوب أفريقيا، استنكاراً لسياسة الفصل العنصري، وقاطعت دول العالم الثالث اتحاد جنوب أفريقيا.
وبدءاً من عام ١٩٩٠، بدأ الحزب الوطني البويري “حزب البيض”، بتفكيك سياسة الفصل العنصري التي أرساها منذ عام ١٩٤٨، بعد صراع طويل مع الأغلبية السوداء ومجموعات أخرى مناهضة للعنصرية شملت هنوداً وسكاناً من البيض أيضاً.

قانون ترويج الوحدة والمصالحة الوطنية

في ١٩٩٥ صدر قانون ترويج الوحدة والمصالحة الوطنية رقم ٣٤ للعام ١٩٩٥، وكان من أولى الخطوات التي هيأت بيئة مناسبة للمصالحة بعد صراع دامٍ امتد ٣٠ عاماً، وقدر عدد السود الذين قتلوا على يد الحكومة البيضاء بأكثر من 15 ألفاً منذ أواخر السبعينيات وحتى أواسط الثمانينيات.
كان إرث العنصرية ثقيلاً، وكانت عملية اجتيازه مهمة صعبة، لكنها ضرورة لانتقال البلاد إلى مرحلة الديمقراطية وإنهاء التمييز العنصري.
وكان ذلك القانون واحدة من نتائج مفاوضات داخلية بدأت أواخر ثمانينيات القرن العشرين، بشكل سري، ثم ظهرت للعلن بعد سلسلة من الاجتماعات والمفاوضات السرية بين الحزب الوطني الأبيض والمؤتمر الوطني الأفريقي، وهي المفاوضات التي أدت إلى تسلم دوكليرك الحكم، وقيامه بالإجراءات المتفق عليها لتفكيك وإنهاء نظام التمييز العنصري، مقابل إعلان المؤتمر الوطني الأفريقي رسمياً، عام 1990، تخليه عن الكفاح المسلح.

جنوب أفريقيا… أكثر التجارب إلهاماً في العدالة والمصالحة والانتقال السياسي

مفاوضات المرحلة الانتقالية

ولقد عرفت البلاد تحولاً منذ عام ١٩٩٠، بوصول دوكليرك للسلطة، حيث رفع الحظر عن نشاط حزب المؤتمر الوطني، وأطلق سراح زعيمه نلسون مانديلا، وانخرط الحزبان في إعداد مخطط انتقالي، وبموجب ذلك تم رفع العقوبات الدولية عن جنوب أفريقيا.
ووضع دستور انتقالي للبلاد عام ١٩٩٣، كما جرت مفاوضات في ذلك العام، استمرت حتى منتصف ١٩٩٥، حول قضية العفو عن مرتكبي الجرائم الخطيرة خلال الفترة الماضية.
وكان ذلك أهم ملفات المفاوضات حول الانتقال الديمقراطي، وقد تم التوصل إلى تسوية على أساس منح العفو بالنسبة للأعمال الإجرامية التي تمت بهدف سياسي، وكان لها علاقة بنزاعات الماضي.
وتكللت المفاوضات بإجراء انتخابات ديمقراطية بمشاركة السود وكل الأعراق، عام 1994، على قاعدة “صوت لكل مواطن بغض النظر عن اللون والعرق”، فاز فيها المؤتمر الوطني الأفريقي بزعامة مانديلا.

لجنة الحقيقة والمصالحة

تمثل لجان الحقيقة والمصالحة أبرز آليات العدالة الانتقالية، وهي تهدف لحماية الحقائق التاريخية من التزييف، وكشف انتهاكات الماضي بغية تجاوزها، وجبر الضرر لتحقيق المصالحة والعفو، وإدخال إصلاحات سياسية وتشريعية لضمان عدم تكرار الانتهاكات.
وفي منتصف عام ١٩٩٥، صادق برلمان جنوب أفريقيا على قانون ترويج الوحدة الوطنية والمصالحة، وتم بموجبه تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة، وصدر في ديسمبر ١٩٩٥ قرار الرئيس نيلسون مانديلا بتعيين أعضاء اللجنة البالغ عددهم ١٧ عضواً، برئاسة القس ديزموند توتو، وكان مقر اللجنة في كيپ تاون.
وقد باشرت اللجنة أعمالها في أبريل 1996، وأصدرت في أكتوبر 1998، تقريراً تضمّن شهادات أكثر من ٢٢ ألف ضحيّة وشاهد، وجرى الإدلاء بألفي شهادة في جلسات استماع علنية، منهية بذلك عملها.

مهام لجنة الحقيقة والمصالحة

تم تفويض لجنة الحقيقة والمصالحة بالاستماع لشهادات الضحايا من جهة، والاستماع إلى اعترافات من ارتكبوا الانتهاكات بحق الضحايا، إضافة إلى جلسات استماع لفئات أخرى، ومُنحت اللجنة صلاحية إصدار عفو في بعض الحالات، عن مرتكبي جرائم متعلقة بانتهاك حقوق الإنسان، ومنح التعويضات “جبر الضرر” للضحايا، وإعادة الأهلية.
بدأت لجنة الحقيقة والمصالحة، عملها من خلال 3 لجان فرعية، هي:

  • لجنة انتهاكات حقوق الإنسان:
    مهمتها التحقيق في الانتهاكات التي تمت بين 1960 و1994، وتحديد هوية الضحايا ومصيرهم أو رفاتهم، وطبيعة ومستوى الضرر الذي لحقهم.
  • لجنة جبر الضرر:
    كانت مهمتها صياغة توصيات واقتراحات حول إعادة تأهيل الضحايا وعائلاتهم. وتم تأُسس صندوق ممول من ميزانية الدولة ومساهمات خاصة لتقديم تعويضات مستعجلة للضحايا.
    لجنة العفو:
    مهمتها الأساسية الحرص على أن تتم طلبات العفو ممن ارتكبوا الانتهاكات طبقًاً للقانون، إذ يمكن لطالبي العفو أن يطلبوه بالنسبة لأي عمل إجرامي مرتبط بهدف سياسي اقتُرِف بين 1 مارس 1960 و11 مايو 1994.
    أسفر عمل لجنة العفو عن تسجيل ٥٠ ألف حالة لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

خلق مجتمع معافى قادر على تجاوز المرارات

وفقاً لكتابات عديدة، اكتسبت تجربة لجنة الحقيقة والمصالحة شهرة عالمية، كونها لم تتهرب من ماضيها، بل تناولته بالتشريح، مستخلصة منه الدروس والعبر في الممارسة السياسية. واستهدفت “خلق مجتمع معافي قادر على تجاوز المرارات”.
وتلك التجربة، اعتبرها معهد الولايات المتحدة للسلام “يو إس إيه بي”، وهو مؤسسة أمريكية فيدرالية مستقلة أسسها الكونغرس، بأنها “قد لعبت دوراً محورياً في إعادة اللحمة الوطنية دون إهدار لحقوق ضحايا النظام السابق، ودون حرمان الطبقة الحاكمة السابقة من فرصة إعادة تأهيلها”.

التشابه والاختلاف في حالتي اليمن وجنوب أفريقيا

إن العديد من النقاط في سياق النزاع الذي عاشته جنوب أفريقيا، والعديد من مجريات الصراع هناك، وأسبابه، تتكرر بصورة من الصور في اليمن، وعبر تاريخه.

نقاط تشابه رئيسية

  • يمثل تاريخ الصراع وجذوره في اليمن، حالة فيها شبه من تجربة جنوب أفريقيا، فالصراع الطبقي والعرقي في اليمن يمثل معضلة تاريخية، إضافة للاستعمار البريطاني الذي احتل جنوب اليمن لأكثر من ١٢٨ عاماً.
  • النزاع بين الأكثرية من اليمنيين والأقلية من الهاشميين الزيود في شمال اليمن، هو نزاع يتكرر منذ زمن طويل، للسبب نفسه، وهو محاولة أقلية عنصرية فرض حكم إمامي أسري “غير ديمقراطي”، قمعي، على الأكثرية، بدعوى الاصطفاء الإلهي، وتقسيم المجتمع إلى هاشميين سادة ويمنيين عبيد.
  • لوقت طويل احتكرت الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا الحكم والسلطة، واقتصرت معظم الحقوق على طائفتها، والأمر نفسه بالنسبة لجماعة الحوثي ذات الخلفية الإمامية، والتي تعمل حالياً على إعادة فرض جميع الممارسات العنصرية والاستبدادية لعهود الأئمة الطائفية على الأكثرية في البلاد، وإرساء نظام أبارتايد جديد.

فروق جوهرية

هناك فروق جوهرية نوردها في المقارنة التالية:

  • في جنوب أفريقيا خاض المؤتمر الوطني الأفريقي والقوى الأفريقية المناهضة لحكومة الفصل العنصري، كفاحاً مسلحاً منذ ١٩٦٠-١٩٩٠، رداً على عنف الحكومة، وكان مطلبهم إلغاء التمييز العنصري والتحول إلى النظام الديمقراطي، دون أي توجه منهم للانقلاب على الحكومة القائمة.
    أما في اليمن فقد نفذت جماعة الحوثي، وهي أقلية زيدية شيعية، انقلاباً على الحكومة الشرعية، بهدف فرض هيمنة أقلية عرقية طائفية على السلطة بالقوة، وإرساء نظام العنصرية، وإعادة فرض نظام إمامي عنصري، وإلغاء الجمهورية ونظام الديمقراطية الذي تم إقراره عام ١٩٩٠.
  • في جنوب أفريقيا قامت حكومة البيض بإرساء الأبارتهايد “نظام الفصل العنصري” رسمياً منذ عام ١٩٤٨، عبر مجموعة من القوانين العنصرية، وكان ذلك هو السبب الذي دفع لقيام مقاومة أفريقية منظمة وقوية أرغمت حكومة الأقلية البيض على التنازل واللجوء إلى مفاوضات أفضت إلى تفكيك نظام الفصل العنصري دون تفكيك البلاد، وقيادة عملية تحول ناجحة إلى الديمقراطية.
    وفي اليمن، شرع الانقلابيون الحوثيون الذين يعتبرون أنفسهم أكثر تميزاً عن غيرهم بسبب العرق، وكونهم هاشميين، قامت هذه الجماعة المدعومة من إيران، بإرساء نظام فصل عنصري عبر إصدار تشريع في أغسطس ٢٠٢٠، حول الزكاة، يفرض ما يسمى “زكاة الخُمس”، ويعني منح ٢٠% من ثروات البلاد وأموال المواطنين، للهاشميين من آل بيت النبي محمد، دون غيرهم، مما يقسم المجتمع اليمني إلى سادة وعبيد، ويفرض التفرقة العنصرية على أساس العرق.

غياب قادة ذوي كاريزما وفكر

ويؤثر غياب قادة ذوي كاريزما وفكر خلاق ونزاهة، على غرار تجربة جنوب أفريقيا في ظل مانديلا ورفقائه، في مسار النزاع في اليمن نحو مزيد من التصعيد والاقتتال.
إذ يعاني اليمن بسبب وجود قيادة يغلب عليها الفساد والجشع، كما أن قيادة جماعة الحوثي هي الأخرى تخوض سباقاً للإثراء غير المشروع، وتكوين ثروات، والاستحواذ على عقارات وإيرادات الدولة، وتوزيعها لمجموعة من الأسر الهاشمية على أساس عرقي.. وكل هذا يجعل التوصل لتسوية بين الحكومة والانقلابيين صعباً.

إيران أكبر عائق أمام التسوية في اليمن

العائق الأكبر أمام اليمنيين لاستلهام تجارب مثل تجربة جنوب أفريقيا، كخارطة طريق نحو السلام، هو الدور الإيراني ذو النفوذ الواسع في اليمن، خصوصاً منذ عام ٢٠١٤.
وتعمل إيران بكل ثقلها على فرض نموذج آخر من حزب الله في اليمن، وتهديد دول الخليج، بخاصة السعودية التي لها حدود مشتركة واسعة مع اليمن.
ووفق تصريحات كبار مسؤولي النظام في إيران، تمثل اليمن وجماعة الحوثي الموالية لهم، رأس حربة في صراعهم مع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية.
وقد أعلن تحالف دعم الحكومة في اليمن، وهو تحالف عسكري تقوده السعودية، أن الحوثيين لا يمتلكون القرار، وأن طهران هي صاحبة القرار، مستدلين على ذلك بفشل ٧٠ اتفاقاً خلال السنوات الماضية، تم توقيعها مع جماعة الحوثي، بسبب نقضها من قبل هذه الجماعة، بعد وقت وجيز على توقيعها.

الدور الخارجي ووجود أطماع لدول في اليمن

ومما يؤجج الصراع في اليمن وجود أكثر من لاعب إقليمي ودولي، لكل منهم أهدافه الخاصة التي يطمح لتحقيقها. فالسعودية والإمارات وبريطانيا والولايات المتحدة ودول أخرى جميعها تؤثر، ولديها أهدافها.
وقد أدى ذلك إلى تشعب الصراع، بخاصة داخل القوى المناهضة للانقلاب الحوثي، وعجزها حتى الآن عن توحيد صفوفها. ويعد اليمن بامتياز ساحة لحرب بالوكالة بين إيران والسعودية.
وبرز مؤخراً دور الإمارات، وسعيها المكشوف للهيمنة على جزيرة سقطرى والسواحل اليمنية، خصوصاً خليج عدن والساحل الغربي على البحر الأحمر.

إمكانية حل النزاع في اليمن في ضوء تجربة جنوب أفريقيا

وإجمالاً، نستنتج من تجربة جنوب أفريقيا، إمكانية تحقيق الانتقال السياسي في اليمن، عبر خطوات ومفاوضات تتطلب أولاً شروطاً محددة تحد من قوة نفوذ العامل الخارجي، وبخاصة نفوذ إيران المعرقل.
قياساً بين حجم وتركة الصراع المرير لكل من جنوب أفريقيا واليمن، هناك ملمح بارز، وهو أن النزاع في جنوب أفريقيا كان أكثر تعقيداً بالنظر إلى عدد الأعراق، والتباينات بين القوميات الكثيرة والمتعددة، وكان إرث العنصرية وممارساتها أثقل وأكثر وطأة.
وإن مقدرة هذه الدولة على التحول في بضع سنوات من النقيض إلى النقيض، عبر الانخراط في مفاوضات منذ نهاية الثمانينيات، وصولاً إلى إلغاء الفصل العنصري وإقرار دستور وانتخابات وسن قوانين تكفل المساواة والعدالة الانتقالية، تكللت بانتخابات عام ١٩٩٤، تقدم من ناحية أخرى مثالاً لليمنيين يمكن استلهامه.
والواقع أنه إذا أمكن للمجتمع الدولي إضعاف دور إيران، أو اتخاذ تدابير ناجعة لمعالجة جذر الأزمة اليمنية، وهو التمييز العنصري، فإن الكثير من عوامل نجاح التسوية اليمنية الشاملة يمكن أن تتحقق.

مقالات مشابهة