المشاهد نت

“الزابور”… فن معماري عتيق في “الجوف”

الجوف – سيف راجح:

من الأرض تراها كقصور نبتت من طينة الأرض، وتفرعت للسماء، تحفها النخيل والعرائش، ومن السماء تلوح لك في الصحارى كنقوش فلتت من إزميل نقّاش قديم. إنها المباني الطينية ذات الطراز المعماري الفريد في محافظة الجوف (شمالي شرق اليمن).
وأغلبها تنتمي إلى فن أصيل مميز من فنون المعمار، يدعى فن “الزابور”، وهو طراز معماري تميزت به الجوف بشكل خاص، وينتشر أيضًا في بعض مناطق محافظة مأرب المجاورة.
“الزابور” هو فن البناء بالطين الخام المخلوط بالتبن أو مخلفات الحيوانات. وبعكس بقية أنواع البناء الطيني، فإن الزابور يبنى بدون قوالب، بل يشكله البناء وفقًا لمخططات المبنى المراد تشييده، في عملية فريدة ومختلفة.
يتم اختيار الطين المناسب للبناء من مناطق معينة، حيث تتوفر الطينة المتماسكة والمقاومة للملوحة، ولا تناسبه كل أنواع الطين، إذ تتعرض التربة الملحية للتآكل وتشوه التفاصيل، وفق عازب قايد يحيى، أحد البنائين المهرة في الجوف.
ويقول يحيى لـ”المشاهد” إن “الزابور، رغم بساطة تكوينه، إلا أنه يحتاج إلى جهود كبيرة من مجموعة من البنائين الذين يتعاونون لإنجاز البناء الواحد”.

ما هي مراحل بناء الفن المعماري؟

وتبدأ أولى مراحل البناء بخلط الطين مع “التبن”، وهو سيقان القمح والشعير المتيبسة والمستخرجة من الحصاد. وإن لم يتوفر التبن يمكن استخدام روث الحيوانات، فهي تمتلك الخصائص ذاتها. وأهمية هذا الخليط أنه يجعل الطينة متماسكة بقوة، ودورها يشبه دور الحديد في الخرسانة. وبعد خلط المكونات بشدة باستخدام الأقدام، تترك الخلطة في الهواء الطلق لمدة 24 ساعة، حتى تتخمر وتتماسك جزيئاتها، لتكون جاهزة للبناء، بحسب يحيى، الذي أمضى 20 عامًا في البناء، تعلمها من والده، ويقوم ببناء الكثير من المنازل سنويًا في مناطق مختلفة من محافظة الجو.
ويتحدث عن حفر الأساسات بالقول: “يتم أولًا حفر الأساس بعمق نصف متر، ويتم حشوه بالطين والأحجار الصغيرة، وفقًا لمخطط المبنى، ويترك 24 ساعة، ثم يتم تشكيل الطين بشكل رباعي بمراكمته فوق بعض، ثم تمليسه في صف مستطيل حتى يكتمل الصف الأول للبناء، والذي يكون صفًا عريضًا ومرتفعًا وسميكًا، ثم بعد 24 ساعة أخرى يتم تشكيل الصف الثاني، ويكون أقل ارتفاعًا من الأول، وأقل سماكة بطريقة تدرجية متناسبة مع ارتفاع المبنى المطلوب”.
وبعد إكمال البناء، يقوم يحيى بعملية تمليس الطين المبني، وذلك باستخدام خلطة طينية شبه سائلة، تجعل البناء مصقولًا ورائعًا، ويتم تلوين هذه الخلطة بألوان غامقة، تزيد من جمالية البناء.
ويستخدم في السقف جذوع النخيل وسعفها، أو جذوع الأثل وسيقانها، ويتم ردمها بالطين المخلوط بالتبن، وحاليًا يستخدم الخشب الخارجي لسقف هذا النوع من البناء.
ويتم تأطير الأسطح بصفوف مرتفعة من صفوف البناء تتجاوز المتر والنصف، بحيث تكون مكانًا للسمر والنوم في ليالي الصيف الحارة.
ومن الداخل يقوم أصحاب المنزل بترميمه بالطين، والجص والنورة، حيث يغدو كتحفة فنية بديعة، بخاصة حين يتم تزيين الغرف بالنقوش والإطارات الجصية الملونة والمنحوتة بعناية.

إقرأ أيضاً  حرمان المرأة من الميراث بسبب هشاشة القضاء في اليمن 

العمق التاريخي لـ”الزابور”

بدأ استخدام الزابور في البناء في مرحلة مبكرة جدًا من تاريخ الإنسان في الصحراء، مع بداية استقرار البدو الرحل وتوطنهم، وذلك في المرحلة التالية للحضارة المعينية، إذ كان المعينيين يستخدمون الحجارة في البناء.

الزابور ” يميز محافظة الجوف، ويستخدم بكثرة في البوادي والمديريات المطلة على الوديان، والبعيدة عن الصخور، ويستخدم أيضًا في المناطق الجبلية التابعة لمحافظة الجوف، مثل مديريات برط ورجوزة


ويذكر عبدالكريم سيلان، وكيل محافظة الجوف لشؤون الإعلام، ومؤرخ قديم، أن البناء الطيني كان يستخدم من قبل الطبقات الوسطى في المجتمع والطبقات الفقيرة، كونه الأقل تكلفة والأسهل في البناء، أما الأقيال وعلية المجتمع فقد كانوا يشيدون منازلهم من الصخور.
ويقول سيلان لـ”المشاهد” إن الزابور بدأ استخدامه في البناء مع بداية استقرار الناس في المنطقة، حول الأنهار والوديان، وقد ظهر خلال الدولة المعينية، لكنه كان مقصورًا على الطبقات الفقيرة والمزارعين، ولم يكن موجودًا في الحواضر والمدن الكبيرة.
وأقدم المنازل الطينية يعود تاريخها إلى القرون الهجرية الأولى، وفق سيلان، مؤكدًا أن هذا المعمار يميز محافظة الجوف، ويستخدم بكثرة في البوادي والمديريات المطلة على الوديان، والبعيدة عن الصخور، ويستخدم أيضًا في المناطق الجبلية التابعة لمحافظة الجوف، مثل مديريات برط ورجوزة، ويعتبر الأفضل، فهو يعطي رونقًا أصيلًا ومكانة متميزة للفن المعماري الذي يميز المحافظة.
ويذكر أن ما يزيد عن 70% من المباني في محافظة الجوف، تستخدم حتى اليوم هذا النوع من البناء، وتتفنن في تجميله ليبدو في بعض الأحيان مثل القصور.
ويتميز هذا النوع من البناء بأصالته ومتانته وصموده أمام عوامل التعرية والتضاريس الجوية، وملائم للطبيعة الجغرافية للصحارى والجبال المطلة على منابع الوديان، كما يقول سيلان.

منازل ملائمة لتقلبات الطقس

تتميز هذه المباني بتصغير نوافذها نسبيًا، إذ تتناسب مع ثقل الطين، بحسب صاحب أحد تلك المباني، صلاح مفلح، الذي يعتبر هذا النوع من البناء متوارثًا.
وتم اللجوء إليها بسبب الأوضاع الاجتماعية السائدة في القبائل، حيث كان المنزل يشيد كحصن يمكن استخدامه للقتال والدفاع عن القبيلة من الهجوم، والنوافذ الصغيرة تقلل الخطر على ساكنيه.
ويقول صلاح لـ”المشاهد” إن منازل الزابور تلائم الأجواء في المناطق المبنية فيها، فهي تكون باردة في أيام الصيف، ودافئة في أيام الشتاء، فهي تخفف من حرارة الصيف، لأن الطين لا يمتص الحرارة، بعكس المباني الأسمنتية والحجرية التي لا تطاق في حرارة الصيف، أما في الشتاء فإن الطبقات الكثيفة من الطين التي بني المنزل بها تسهم في رفع حرارة المنزل، والحفاظ على التدفئة بداخله.
ويضيف: “منازل الزابور محببة كثيرًا لنا كقاطني الصحراء، كونها مبنية من المواد المتوفرة في البيئة نفسها، ولا تكلف كثيرًا، وأيضًا لها طبيعة مناسبة للصحراء، أيضًا لها قوة وصمود ويطول بقاؤها، فهناك منازل يزيد عمرها عن الـ300 عام، وهناك حصون من الزابور عمرها أكثر من 5 قرون، ومازالت تُستخدم حتى الآن.

مقالات مشابهة